تقدير موقف

اقتصاد الكوارث: لماذا تفشل الحكومة الأمريكية في مواجهة الأعاصير؟

يُعتبر الساحل الشرقي بالولايات المتحدة مكانًا لأعاصير مدمّرة ومتكرّرة. وتُعتبر الكارثة التي تسبّب فيها إعصار" كاترينا" أكبر كارثة حلّت بذلك البلد، حيث ضرب مدينة نيو أورليون الأمريكية في نهاية أغسطس 2005 وتسبّب بوفاة 1800 شخص وتهجير 400 ألف شخص من مساكنهم وخسارة قُدّرت بـ100 بليون دولار. وبعدها تسبّب إعصار "صاندي" الذي ضرب ميرلاند ونيوجرسي ونيويورك في تهجير 37 ألف مقيم في نيوجرسي و300 ألف مقيم في نيويورك وتسبّب في خسائر قُدّرت بـ60 بليون دولار. ومعلوم أنّ أعاصير "هرفي وماريا وأرما" التي عصفت بالساحل الشرقي نفسه مؤخرًا، تسبّبت في تهجير مئات الآلاف من مساكنهم وقُدّرت كلفتها بـ309,5 بليون دولار.

اقتصاد الكوارث: لماذا تفشل الحكومة الأمريكية في مواجهة الأعاصير؟

الساحل الشرقي هو مكان كوارث متلاحقة ولهذا رأينا أن نطلع القارئ في المنطقة العربية على تجربة إدارة الكوارث الطبيعية في الولايات المتحدة لنستخلص الدروس المفيدة لنا عربيًا، خاصة بعد كارثة زلزال الحوز بالمغرب وإعصار دنيال بدرنة الليبية.

التحدي الأكبر ليس توفّر الموارد ولكن كيفية تنظيم استجابة سريعة وفعّالة في مواجهة الأزمة الطارئة

لم يكن يتصوّر السكّان الذي تضرّروا من كوارث الأعاصير أنهم سيعودون يومًا إلى بيوتهم، لكن في نهاية المطاف عاد الناس إلى بيوتهم، وهذا ما يهمّنا أكثر في المقال، من خلال الاستفسار عن أسباب هذه العودة: كيف حصل ذلك؟ وهل كانت الحكومة وراء ذلك أم أنّ المجتمع المدني والجيران والأصدقاء والشركات التجارية كانوا وراء عودة الناس إلى حياتهم الطبيعية؟

تطرح الكوارث الطبيعية تحديات كبيرة للحكومات من أجل الاستجابة لحاجات المتضرّرين في الإغاثة والتعافي وإعادة الإعمار، وهي تتطلّب موارد بشرية ولوجستية ومالية قد تتوفّر بفضل المساعدات الدولية، لكن التحدي الأكبر ليس توفّر الموارد ولكن هو كيفية تنظيم استجابة سريعة ومناسبة وفعّالة في مواجهة الأزمة الطارئة.

الأدلة التي تمَّ جمعها وتوثيقها ومناقشتها من قبل علماء الاقتصاد والاجتماع في دراسة حالات كوارث الساحل الشرقي، تؤكد أنّ الاستجابة الحكومية كانت بطيئة وغير فعّالة بينما الاستجابات السريعة والمناسبة والفعّالة كانت من شبكات المجتمع المدني المحلّي ومن شبكات المتاجر المحلّية.

ثمّة عدّة أسئلة صعبة في إدارة الكوارث، منها السؤال الأهم: مَن يحتاج للمساعدة وماذا يحتاج وبأي كمية وأين يوجد؟ المسألة هي معرفة حاجات الناس محليًا والوصول إلى تلبيتها من جهة، ومن جهة أخرى مَن يريد المساعدة وماذا يقدّم وأين يتمّ تخزين موارد المساعدة، وتُطرح هنا القضية من زاوية التنسيق بين الطلب على المساعدات وبين مَن يريد تقديم المساعدات. والتنسيق الفعّال هو الذي يتجنّب وضعيّتين هما العجز في الكميات المعروضة للمساعدة وتبذير الموارد الموجّهة للإغاثة.

لقد توصّلت الأبحاث في الولايات المتحدة إلى أنّ الرياديين المحليين من المجتمع المدني والشركات التجارية في المرتبة الأفضل من حيث الاستجابة الفعّالة في مواجهة الكوارث. مشروع إعادة إعمار الساحل الشرقي الذي قاده مركز Mercatus Center من جامعة جورج مايسون يُعتبر مشروعًا رائدًا تأسّس مباشرة بعد كارثة إعصار كاترينا في 2005، وتمخّض عنه المئات من المخرجات التي كان لها تأثير إيجابي على صنّاع القرار في الولايات المتحدة في مراجعة سياسة الطوارئ.

الوكالة الحكومية هي وكالة بيروقراطية مركزية ولديها مشكلة أساسية هي "المعرفة المحلية"

وكان قد ظهر من خلال الدارسات الأكاديمية السابقة أنّ تجاوب الحكومة الأمريكية مع كارثة إعصار كاترينا في 2005 من خلال الوكالة الفيديرالية لإدارة الطوارئ FEMA كان استجابةً متأخّرةً ومتعثّرة. تأخُّر في وصول المساعدات وأخطاء في توزيعها وإدارة سيّئة لتخزين الموارد حيث تم التخلّص من 85 مليون دولار من المواد الغذائية والسوائل، وبُطء بيروقراطي في معالجة طلبات التعويضات وشكاوى متزايدة عن تعويضات محدودة ومتأخّرة للمتضرّرين وتأخُّر في عودة الناس لمنازلهم.

جرى تقديم تفسيرات منطقية لتعثّر الجهود الحكومية في الإغاثة وإعادة الإعمار من منظور اقتصادي واجتماعي، حيث إنّ الوكالة الحكومية هي وكالة بيروقراطية مركزية وتراتبية وليس لديها فروع محلية في المناطق المتضرّرة، إضافة إلى أنها متواجدة في عواصم الولايات وحسب، ولديها مشكلة أساسية هي مشكلة المعرفة المحلية، بل لا تعرف مَن يريد المساعدة، وكم وأين يوجد، وهل المساعدة مناسبة للمتضرّرين وهل تصل بسرعة. وواضح أنّ هذه أسئلة لا تملك حولها الوكالة أيّ معرفة صحيحة، لأنه لديها استجابات نمطية مكرّرة وتبقى غير فعّالة مع الكثير من الأخطاء المتكرّرة.

ما كان ينقص وكالة الطوارئ الحكومية هو ما كان تتوفّر عليه شبكات المجتمع المدني المحلي، حيث إن القادة الرياديين من القادة الجمعويين والقادة الدينيين المحليين كانت تتوفر لديهم المعرفة والحوافز لتقديم خدمات المساعدة للضحايا المتضرّرين من كارثة كاترينا. لعبت الكنائس المحلية دورًا كبيرًا في تعبئة الموارد والمتطوّعين، وحوّلت مقرّاتها إلى مراكز إغاثة، وبفضل شبكاتها المحلية المترابطة استطاعت أن تصل إلى المتضرّرين وتقدّم لهم المساعدة العاجلة في الوقت المناسب والمكان المناسب. واستطاعت أن تُعيد التماسك الاجتماعي بين الناس الذين فرّقتهم الفيضانات.

ومن الأمثلة الواقعية عن استجابة القادة الدينيين يُذكر هنا تجربة المنظّمة الخيرية اليهودية للرابي بندر في كارثة إعصار صاندي حيث استطاع أن يجمع 11 مليون دولار من التبرّعات في ظرف قصير ويوزّعها على 1000 عائلة متضرّرة، وتمّ التأكّد من ما يحتاجه الناس وجرى متابعة وصول المساعدات لأصحابها بفضل الشبكات المحلية للمنظّمة الدينية، كما جرى إعادة تقييم الحاجات وعلى أساسها جرى طلب تبرّعات جديدة وفق حاجات مُحددة بدقّة، مما دفع المزيد من المتبرّعين على تقديم هبات وعطايا وأموال للمؤسسة غير الربحية لصالح المتضرّرين من الإعصار.

لقد نجحت شبكات المجتمع المحلي (الكنائس، الجمعيات، الجيران،..) في الاستجابة السريعة والمناسبة والفعّالة في كارثة إعصار كاترينا وفي الأعاصير اللاحقة التي مسّت الساحل الشرق حيث فشلت الوكالة الحكومية للطوارئ.

لا يكمن السبب في غياب الإرادة السياسية أو نقص الموارد أو إهمال الموظفين، وإنما في بنية المنظّمة الحكومية التي منعتها من التصرّف بالشكل الأفضل والفعّال في إدارة الأزمة مقارنةً بشبكات المجتمع المحلي.

الكوارث الطبيعة بدأت في التكرار بشكل متزايد في منطقتنا مما يتطلّب مراجعة السياسات

بعد كارثة إعصار كاثرينا قامت الوكالة الحكومية الأمريكية بمراجعة سياستها في إدارة الطوارئ وفق التقارير البحثية المختلفة، كما بدأت سياسة جديدة تعتمد على الشراكة مع المجتمع المدني في إدارة الأزمات انطلاقًا من قناعة أنّ المجتمع المدني المحلي هو الأقدر من حيث طبيعته الاجتماعية والتنظيمية على تقديم أفضل الاستجابات لأسوأ الكوارث.

في المقال القادم سنحاول تقديم بعض التوصيات التي نزعم أنها يمكن أن تفيد صنّاع القرار في الوطن العربي، من أجل صياغة أو إعادة صياغة السياسات المتعلّقة بإدارة الكوارث الطبيعية، لأنّ الكوارث الطبيعة بدأت في التكرار بشكل متزايد في منطقتنا مما يتطلّب مراجعة السياسات.

ننهي المقال بنص متفائل بخصوص الكوارث للفيلسوف البريطاني جون ستوارت ميل "ما أثار الدهشة في كثير من الأحيان هو السرعة الكبيرة التي تتعافى بها البلدان من حالة الدمار؛ اختفاء كل آثار الأضرار التي أحدثتها الزلازل والفيضانات والأعاصير وويلات الحروب في وقت قصير. يقوم العدو بتدمير بلد ما بالنار والسيف، ويُدمّر أو ينهب كل الثروة المنقولة الموجودة فيه تقريبًا، يتمّ تدمير جميع السكان، ومع ذلك، في غضون سنوات قليلة بعد ذلك، يعود كلّ شيء كما كان من قبل".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن