لم يكن مفاجئًا أنّ فنانًا كبيرًا مثل السيناريست الراحل «أسامة أنور عكاشة» طرح ذلك السؤال في مسلسله «أرابيسك» عام 1994 إثر الغزو العراقي للكويت واضطراب المشاعر العامة.
بنصّ سؤاله: من نحن.. فراعنة، عرب، أفارقة، شرق أوسطيين.. ننتسب إلى ثقافة البحر المتوسط أم أننا «بزرميط» نجمع بينها جميعا؟!
لم تكن الإجابة مستعصية، لكنه قلق الفنان في لحظة حيرة.
مصر عربية، منتسبة إلى قارتها الإفريقية، ومتداخلة مع عالمها الإسلامي
بالثقافة والمصير والتاريخ، مصر عربية مشدودة إلى محيطها العربي، الانعزال عنه حكم بالإعدام التاريخي وإهدار لأمنها القومي في صميم اعتباراته.
باليقين هناك مصادر إضافية تثري هوية الشخصية الوطنية.
فمصر عربية، تعتزّ بإرثها الحضاري القديم، متأثّرة بثقافة البحر المتوسط، وجزء من الحركة الفوارة في الإقليم، منتسبة إلى قارتها الإفريقية، ومتداخلة مع عالمها الإسلامي، متنوعة دينيًا، والتنوع عامل قوة لا ضعف.
تراكمت تجاربها وخبراتها في أنحاء حياتها، أثر الحضارة المصرية القديمة ظلّ ساريًا في اللغة والعادات والتقاليد وطبائع الشخصية، رغم اختلاف الأزمان.
إنكار التاريخ تجهيل بما جرى فعلًا على شواطئ النيل عبر القرون.
وإنكار التراكم تجهيل آخر بحقائق الأمور، المنطقة التي نحيا فيها اختلفت، جوارنا عربي ومحيطنا الحيوي عربي وأمننا القومي عربي، مصادر التهديد القديمة كـ«الهكسوس» اختفت من على خرائط الجغرافيا السياسية وحلّت مكانها مصادر أخرى على حدودها الشرقية حيث القوات الإسرائيلية.
الكلام عن النقاء العرقي عنصرية صريحة، أو كامنة
عروبة مصر ليست قضية معلّقة في فضاء المساجلات.
من حق كل مصري أن يفخر بإرثه الحضاري دون أن ينكر ما جرى للبلد بعد انقضاء الحضارة المصرية القديمة من غزوات واحتلالات وهجرات واختلاط دماء.
وهو حقّ مكفول لكل بلد عربي دون أن يخلّ ببوصلته الأساسية حيث معركة وجوده.
الكلام عن النقاء العرقي وَهْمٌ مطلق فضلًا عن كونه عنصرية صريحة، أو كامنة.
الحضارات القديمة كلّها صبّت في مجرى تاريخي واحد لتصنع الإنسانية المعاصرة.
الاعتزاز بالإرث الحضاري لازم وإنكار الحقائق انتحار.
بعد حرب أكتوبر (1973) جرت حملات واسعة حاولت أن تنفي عروبة مصر، أو أن تنسبها إلى أية هوية غير أن تكون عربية!
لم تكن تلك الحملات عشوائية بقدر ما كانت تمهيدًا بالمدفعية الثقيلة الإعلامية والسياسية للانقلاب على خيارات ثورة يوليو في التحرّر الوطني والعدل الاجتماعي.
مصر إذا ما خرجت إلى محيطها الطبيعي تنهض وتكتسب صفة الدولة الإقليمية العظمى
دعا «توفيق الحكيم»، إلى «تحييد مصر»، أو بصياغة أخرى انعزالها عن عالمها العربي، لا شأن لها بأزماته وقضاياه.
كان ذلك تمهيدًا للصلح المنفرد مع إسرائيل وخروج أكبر دولة عربية من الصراع العربي الإسرائيلي.
كان ذلك صدامًا مباشرًا مع صلب نظرية الأمن القومي في مصر، حقائق الجغرافيا والتاريخ، المصير والمستقبل.
حسب المفكر الجغرافي الدكتور «جمال حمدان» فإنّ مصر إذا ما انعزلت داخل حدودها تتعرّض للتهميش السياسي، تُستباح تمامًا، وإذا ما خرجت إلى محيطها الطبيعي تنهض وتتقدّم وتكتسب صفة الدولة الإقليمية العظمى.
إذا كان هناك من يتصوّر أنّ إنكار العروبة ممكن فهو واهم.
لم تخترع ثورة يوليو المشروع العروبي، لكنها جسّدته أملًا حيًا على الأرض بسياسات تبنّتها ومعارك خاضتها.
قيمة «جمال عبدالناصر» في التاريخ ليست أنه حكم مصر، أكبر دولة عربية، ولا أنه أنجز بقدر ما يستطيع، أصاب وأخطأ، وهذا كلّه يستحق مراجعته بالوثائق الثابتة لا الأهواء المتغيّرة.
قيمته أنه عبّر عن فكرة أن مصر تستطيع أن تكون قوية وتجعل العالم العربي قويًا معها فتتضاعف قوّتها، وهي فكرة لا تأتي مصر إلا ربع ساعة كل قرن بتعبير الكاتب الراحل «محمود عوض».
التعبير مجاز لكنه يعكس قوة الحقائق في مسألة الهوية.
كان صراع الأفكار والسياسات قبل يوليو، هو من أعطى زخمًا ميدانيًا للفكرة العروبية بمعانيها الحديثة.
أرجو ألا ننسى أن الفكرة العروبية الحديثة نشأت في المشرق العربي، الذي تعرّض في السنوات الأخيرة لتخريب منهجي في مقدراته وقدراته.
لا عروبة بلا مصر ولا مستقبل لمصر خارج عالمها العربي
وأرجو ألا ننسى أيضًا أنّ الفكرة العروبية في المشرق العربي دمجت المسلمين والمسيحيين في نسيج فكري وثقافي وسياسي واحد في مواجهة «التتريك» على نحو غير معتاد، وأنّ أحد الأسباب الجوهرية الماثلة حاليًا لزعزعة الوحدة الداخلية لبلدان عربية كثيرة، غياب أي مشروع للدمج على أساس قواعد المواطنة والمساواة أمام القانون بين مكوّناته وتنويعاته.
كان دخول مصر إلى حلبة التاريخ بعد تأميم قناة السويس عام (1956) وتصدّرها لقيادة حركات التحرير الوطني في ذلك الوقت إيذانًا بضخّ دماء جديدة في الفكرة العروبية وإكسابها طابع المشروع القادر على صناعة المستقبل.
أيًّا ما كانت متغيّرات السياسة فلا عروبة بلا مصر ولا مستقبل لمصر خارج عالمها العربي.
(خاص "عروبة 22")