وجهات نظر

المهام المركّبة للفكرة القومية في السياق الراهن (2)

تطرّقنا في مقالة سابقة إلى أهمّ المهام المنوطة بالفكر القومي المعاصر في المنطقة العربية، وأحصينا ثلاثة منها على الأقل، جاءت كالتالي: ممارسة النقد الذاتي؛ الانخراط في مشاريع قومية مؤسساتية تروم تجديد الفكرة القومية؛ وأخيرًا، منافسة المنصّات البحثية والإعلامية التي تعجّ بها الساحة، والتي يكاد بعضها يعادي الفكر القومي، أو على الأقل يمارس الحصار عليه.

المهام المركّبة للفكرة القومية في السياق الراهن (2)

نتوقّف في هذه المقالة عند بعض التفاصيل المرتبطة بالمهام، مع ذكر أمثلة أو نماذج عَمَلية من باب تقريب الصورة وتحفيز من يهمّهم الأمر، أو ممارسة ما يُشبه الاستفزاز الإيجابي لأهل النظر القومي.

ونزعم أنه يمكن حصر أهمّ هذه التفاصيل الثانوية في النقاط التالية:

- تكمن الأولى في التسريع من وتيرة المراجعات النظرية، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ خيار المراجعات هو أحد أبواب المهمة الأولى التي تطرّقنا إليها في المقالة السابقة، أي ممارسة النقد الذاتي، لنقل أننا إزاء الوجه الآخر لعملة النقد الذاتي، لأنّ مجرّد فتح هذا الباب، على غرار ما قام به عبد الإله بلقزيز في كتابه الأشهر والخاص بهذا الباب النقدي، أي كتاب "نقد الخطاب القومي" (مركز دراسات الوحدة العربية، 2010)، يتقاطع مع خيار المراجعات بشكل أو بآخر.

نتحدث هنا عن التسريع من وتيرة المراجعات لأنّ خطوة بلقزيز سالفة الذكر كانت أشبه بحالة خاصة، إن لم نقل نادرة، في مُجمل ما صدر عن الأدبيات القومية في المنطقة العربية خلال العقود الماضية، مع أنه ما أكثر القضايا النظرية المستجدة، فالأحرى التحوّلات ومعها التحديات الاستراتيجية التي تواجهها مجمل دول المنطقة، دون استثناء.

أهل النظر القومي الراهن معنيون بالانفتاح على قضايا العصر وأغلبها كان خارج دائرة التفكير في عقود ماضية

على سبيل المثال، يمكن استحضار ما جرى في المنطقة بُعَيد اندلاع أحداث 2011، والتي يُصطلح عليها عند البعض بأحداث "الربيع العربي" أو أحداث "الفوضى الخلّاقة" عند البعض الآخر، لكن الشاهد هنا أنه من نتائجها، سقوط الملايين من الضحايا وهجرة ملايين، وإدراج بعض دول المنطقة في خانة "الدول الفاشلة" واندلاع أزمات سياسية حقيقية بين دول المنطقة نفسها، وإن تراجعت حدّتها خلال السنوات الماضية كما نعاين في منطقة الخليج العربي، مقابل استمرارها في منطقة المغرب العربي، وخاصة الأزمة بين المغرب والجزائر.

لا يمكن للفكر القومي العربي أن يشتغل على هذه التحوّلات انطلاقًا من العدّة النظرية ذاتها التي كانت متداولة في حقبة ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، بما يُحيلنا على المحطة الثانية.

- تفيد هذه المحطة أنّ أهل النظر القومي الراهن - وبعضهم ينشر في هذه المنصّة - معنيون بالانفتاح على قضايا العصر وأغلبها كان خارج دائرة التفكير في عقود ماضية، بحكم التحوّلات العالمية القائمة في عدة مجالات، سياسية واقتصادية وفكرية وبيئية وغيرها، ومن بوسعه أن يتوقع صدور دراسات أو مقالات في المجلات العربية التي كانت تصدر في زمن مضى، وخاصة المجلات القومية الصادرة من بيروت، تتطرّق لقضايا نهاية القطبية العالمية، الثورة الرقمية، صعود النفوذ الصيني، منعطف الذكاء الاصطناعي، التسريع من وتيرة التطبيع بين بعض دول المنطقة العربية وإسرائيل، تراجع تأثير الخطاب السياسي الإيديولوجي، ضمن قضايا أخرى، وهذا أمر منتظر لأنّ أغلب هذه القضايا أو المستجدات لم تكن قائمة حينها، وبالتالي لا يمكن توقّع صدور مقالات أو دراسات حولها، باستثناء بعض التوقعات التي كانت تصدر عن بعض الأقلام المتخصّصة في ما يُصطلح عليه بالفكر الاستشرافي أو الفكر المستقبلي، من قبيل الراحل المهدي المنجرة من المغرب، أو نوعًا ما الراحل سمير أمين من مصر.

لكن الأمر مغاير كليًا اليوم، بما يقتضي قراءات نظرية قومية جديدة، تنهل من عُدّة نظرية جديدة مقارنة مع عُدّة الأمس، وهذه مهمة ليست هينة قط لعدة اعتبارات، أقلّها إنّ خوض هذه المغامرة النظرية يقتضي ممارسة مراجعات أو نقد ذاتي، والحال أنه ما أقسى ممارسة النقد الذاتي في المنطقة العربية، لذلك أشرنا أيضًا إلى فرادة كتاب عبد الإله بلقزيز مقارنة مع السائد من خطابات في الساحة الفكرية القومية.

لا يوجد مشروع إصلاحي دون عدّة نظرية تسطّر معالمها على أرض الواقع

بل نزعم أنّ هناك نسبة من أهل النظر القومي لم تستوعب بعدُ تبعات هذه المستجدات النظرية والميدانية على الفكر القومي نفسه، وخاصة نسبة من رموز الأجيال الماضية، ومن الصعب توجيه اللوم إلى أهل هذه النسبة، لأنّ العامل النفسي مؤثّر أو محدّد جدًا وراء عدم وعيها بمقتضى هذه التحوّلات.

- بقي أمامنا التفصيل أو المحدّد الثالث، ولا يخرج بدوره عن المهمة الثانية التي جاءت في المقالة الأولى، أي خيار مأسسة المشاريع القومية، على الأقل في شقّها البحثي لأنه لا يوجد مشروع إصلاحي دون عدّة نظرية تسطّر معالمها على أرض الواقع.

ومن باب المكاشفة وإحقاق بعض الحقوق، رغم حساسية هذه الجزئية، لا مفرّ من استحضار الأدوار السلبية التي قامت بها فعاليات بحثية عربية ضدّ أحد أهمّ المراكز البحثية العربية في المنطقة، أي مركز دراسات الوحدة العربية ومقرّه بيروت، حتى إنه إلى غاية ليلة أحداث 2011، كان المركز يُصنّف في مقدّمة المراكز البحثية، من حيث كمّ ونوع الإصدارات التي كان يُشرف عليها، إضافةً إلى نوعية المؤتمرات التي كان ينظّمها وخاصة المؤتمرات التي كانت تهمّ قضايا المنطقة العربية، لولا أنّ أحداث "الربيع" أو "الفوضى" كانت من بين الأسباب التي أفضت إلى تعرّض المركز إلى حالة أقرب إلى "النزيف"، أفضت إلى هجرة العديد من الأسماء البحثية العربية نحو مراكز بحثية أخرى، إضافة إلى تعرّض المركز في عدّة محطات إلى أكثر من ضائقة مالية كانت بين الفينة والأخرى على وشك أن تسبّبت في إغلاقه نهائيًا.

مهم جدًا تأمّل مسار هذه التجربة البحثية الرائدة، والتفكير في سُبُل دعمها من جهة، موازاةً مع إطلاق مراكز بحثية في الأفق النظري نفسه، على غرار ما نعاين مع المراكز البحثية المنافسة أو المعادية للفكر القومي، من قبيل مراكز "أسلمة المعرفة" ضمن مراكز بحثية أخرى.


لقراءة الجزء الأول: المهام المركّبة للفكرة القومية في السياق الراهن (1)

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن