اقتصاد ومال

لهذه الأسباب... تونس تراجع "التبادل التجاري الحر" مع تركيا!

تونس - فاطمة البدري

المشاركة

أبدت تونس رسميًا عزمها مراجعة شروط اتفاقية التبادل التجاري الحرّ مع تركيا، بهدف الحد من العجز المتزايد في الميزان التجاري مع أنقرة، وحماية إنتاجها الوطني وإنقاذ الآلاف من التونسيين مما تضرّروا من غزو السلع التركية للسوق التونسية، وإنعاش بعض القطاعات الحيوية التي انهارت جرّاء هذه الاتفاقية بعد ثورة 14 يناير/كانون الثاني.

لهذه الأسباب... تونس تراجع

حسب معهد الإحصاء الحكومي، فإنّ أنقرة تسهم بنحو 3.9 مليارات دينار (نحو 1.2 مليار دولار) من مجموع العجز في الميزان التجاري التونسي، الذي بلغ 25.2 مليار دينار (نحو 8.1 مليار دولار) خلال سنة 2022، وهو ثالث أكبر عجز تجاري لتونس مع بلدان تربطها بها اتفاقيات مماثلة بعد الصين والاتحاد الأوروبي. كما أنّ قيمة العجز مع أنقرة يفوق إجمالي التمويل الخارجي الصافي للبلاد طيلة سنة 2022 والمقدّر بـ3.4 مليار دينار وذلك حسب تقرير وزارة المالية التونسية الصادر في فبراير/شباط الماضي.

وتؤكد إحصائيات رسمية أن نسق العجز التجاري مع تركيا لم يتراجع خلال سنوات ما بعد الثورة، إذ بلغ 919 مليون دولار في العام 2021، مقابل 836 مليون دولار في العام في 2019 و500 مليون دولار خلال سنة 2017.

ووقعت تونس وتركيا اتفاقية التجارة الحرة في الـ25 من نوفمبر/تشرين الثاني 2004، وفي سنة 2005، أصبحت جميع المنتجات الصناعية معفاة بالكامل من الرسوم الجمركية. لكن الاتفاقية نصت أيضًا على أن يكون هذا الإعفاء عند سقف معيّن مع عدد من المنتوجات الفلاحية على غرار التمور التونسية التي تتمتع بهذا الإمتياز في حدود 5 آلاف طن.

وبعد اندلاع الثورة في 11 يناير/كانون الثاني 2011 ووصول "حركة النهضة" الإسلامية للحكم سنة 2012، فُتحت الأسواق التونسية على مصراعيها أمام البضائع التركية خاصة في مجال الصناعات الغذائية والاستهلاكية وقطاع النسيج والأدوات المنزلية ومواد أخرى تُصنع في تونس بجودة أفضل. كما استأثرت الشركات التركية بالحصّة الأكبر من الصفقات الكبرى.

وأمام الغزو الكبير للسلع التركية للأسواق التونسية أطلق المهنيون التونسيون صيحة فزع وطالبوا حينها بوضع حد للتدفق الكبير لهذه المنتوجات على البلاد، مؤكدين أن أغلبها من الكماليات ولا ترقى إلى جودة ما يُنتج في تونس. لكن لم تكترث السلطات التي كانت آنذاك بقيادة "حركة النهضة"، حتى عندما بدأت المبادلات التجارية تشهد عجزًا غير مسبوق لصالح الاقتصاد التركي، وحتى عندما ضُرب الإنتاج المحلي وأفلست عدة شركات تونسية.

واضطرّ الآلاف من أصحاب مصانع الأحذية، النسيج، والصناعات المعملية، لا سيما أصحاب المؤسسات الصغرى والمتوسطة إلى إعلان إفلاسهم في ظل عجزهم عن منافسة السلع التركية التي اكتسحت السوق التونسية مستفيدةً من تسهيلات السلطة التونسية والامتيازات التي تقدّمها للسلطات التركية، أمام الضرائب المجحفة التي تفرضها على المؤسسات الصناعية التونسية وارتفاع تكلفة الانتاج.

ويتمّ استيراد سنويا ما قيمته 464 مليون دولار من النسيج من تركيا، ويبلغ العجز في هذا القطاع 357 مليون دولار. وهو رقم كبير جدًا نظرًا لكون قطاع النسيج هو أحد أعمدة الصناعات المعملية في تونس منذ سبعينات القرن الماضي، سواءً من حيث فرص الشغل أو من حيث المساهمة في التصدير. ولكن مع هذا الانفلات في اقتحام السلع التركية للبلاد، شهد القطاع أحد أصعب أزماته على الإطلاق. وحسب الخبراء التونسيين، تخسر تونس كل سنة 374 مؤسسة متخصّصة في صناعة النسيج جراء منافسة السلع الأجنبية وخاصة التركية. وهو ما أدى إلى فقدان حوالى 50 ألف موطن أعمالهم.

أما الجلود والأحذية فيبلغ العجز فيها 46.4 مليون دولار، وتأتي تركيا على رأس البلدان التي تستورد تونس منها هذه السلع. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، فقد انخفض عدد مصانع الأحذية في محافظة صفاقس (جنوب) التي تُعدّ إحدى أهم المدن الصناعية في تونس، من 10 آلاف مصنع إلى 2500 مصنع حاليًا بسبب هذه المنافسة، فيما أعلن 7 آلاف مصنع إفلاسها. وأغلق 10 آلاف مصنع للملابس الجاهزة أبوابها، وتمكّن 5 آلاف مصنع فقط من الصمود في وجه غزو السلع التركية للأسواق التونسية.

ويقول الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان لـ"عروبة 22": صحيح أنّ تونس وقّعت اتفاقية التبادل الحرّ مع تركيا قبل الثورة، ولكن مع صعود "حركة النهضة"، وتحديدًا مع حكومة علي العريض تغيّرت الأمور. ففي 2013 مع الحكومة ذاتها تمّت مراجعة الاتفاقية وفق رؤية تخدم مصلحة البضائع التركية وتضرّ كثيرًا بالاقتصاد التونسي".

وأضاف: "تفاقم عجز الميزان التجاري مع أنقرة بشكل لافت بعد أن سمحت المراجعة التي قامت بها حكومة العريض بغزو الشركات التركية المصدّرة للسوق التونسية. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فتركيا ذهبت أيضًا لإقصاء تونس من السوق الليبية، وأقدمت من أجل ذلك على شراء بعض العلامات التونسية لتبيعها في ليبيا على أنها صناعة تركية".

ويؤيده الخبير المتخصّص في الاقتصاد وتنمية الموارد، حسين الرحيلي، الذي قال لـ"عروبة 22": "قبل الثورة لم نشهد هذا الإغراق الكبير بالملابس الجاهزة والمستعملة القادمة من تركيا، مع أنّ تونس بلد متميّز في صناعة النسيج، ولم يحدث أن وجدنا في أسواقنا منتجات غذائية كالتفاح والشوكولاتة والقليبات (عباد الشمس) وغيرها من المواد التي تنتجها تونس بوفرة وجودة عالية. لم يحدث ذلك سابقًا لأنه كان هناك توازن في المبادلات بين البلدين، وكانت الدولة التونسية حريصة على مصالحها وتقوم بما يلزم من إجراءات لحماية اقتصادها الوطني كلّما تطلّب الأمر، وهو ما غاب تمامًا منذ وصول "حركة النهضة" الحليف الاستراتيجي لتركيا".

وتستورد تونس من تركيا حوالى 90 مادة من بينها نباتات الزينة وآلات الموسيقى والمواد المكتبية ومختلف المواد الغذائية كالبسكويت والشوكولاتة ومواد البناء والخشب والأثاث. في المقابل بقيت صادرات تونس نحو تركيا محدودة وتتمثّل في الفسفاط والتمور، تحديدًا دقلة النور التونسية.

وفي عام 2018 حاولت تونس تقليص العجز المستفحل، فرفعت التعرفة الجمركية لعدد من المنتجات الواردة من تركيا، ولكن هذه الخطوة لم تسفر عن أي نتائج ملموسة.

ولا تتوقف المسألة عند حدّ غزو السوق التونسية ومنافسة بضائع متوفرة بجودة أفضل، بل تؤكد منظمات الدفاع عن المستهلك، الحكومية والخاصة، أنّ العديد من المنتجات التركية الواردة إلى تونس، هي صينية الصنع لكن يتعمّد الصناعيون الأتراك تغيير دولة المنشأ وتصديرها إلى تونس كسلع تركية للاستفادة من الإعفاء الديواني، فضلًا عن مخالفة أغلبها للمواصفات الصناعية التونسية.

وتجهد تونس راهنًا في سبيل إعادة الحياة للقطاعات التي تضررت بسبب غزو السلع التركية، ووقف نزيف العملة الصعبة في ظلّ الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة التي تمرّ بها البلاد.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن