وجهات نظر

"نقد العقل العربي" بعد ثلاثة عقود

عندما أصدر المفكّر المغربي الراحل محمد عابد الجابري سلسلته "نقد العقل العربي" قبل ثلاثين سنة، أثار مفهوم العقل العربي جدلًا واسعًا في الحقل الثقافي العربي. قيل أوانها إنه يسلك المنهج الاثنوغرافي الاستشراقي في حديثه عن عقلية عربية خاصة في مقابل العقلية الأوروبية الحديثة، ورفض بعض الفلاسفة هذا المفهوم من منظور وحدة العقل الإنساني استلهامًا لدرس كانط الذي كان أول من كتب في نقد العقل (المحض ثم العملي).

صحيح أنّ الفيلسوف الابستمولوجي الفرنسي غاستون باشلار، الذي استوحى الجابري كثيرًا من أفكاره، تحدّث عن "العقل العلمي"، كما أنّ رجيس دوبريه كتب عن "العقل السياسي"، لكن كلاهما كان يعني فاعلية فكرية كونية وليس قومية محدودة.

لقد فسّر الجابري مفهومه للعقل بتحديد ابستمولوجي قوامه أنّ العقل ليس ذاتًا بل هو قواعد للنظر وأدوات للتفكير، أي أنه فاعلية مفهومية تتغيّر بالمعطيات التاريخية والاجتماعية.

والحقيقة أنّ الجابري في هذا التحديد كان متأثرًا - وقد أقرّ بذلك - بالمصطلحات الابستمولوجية في مدرسة القطيعة (لدى باشلار ولويس التوسير)، وبمقاربة ميشال فوكو في قراءة التراث الأوروبي، كما في كتابيه "الكلمات والأشياء" و"حفريات المعرفة".

الجابري وفّق فعلًا في تجديد الدراسات العربية الوسيطة

بيد أنّ إضافة الجابري الكبرى تتمثّل في كونه نقل هذه الأدوات التحليلية إلى ما سمّاه بالتراث العربي الإسلامي، وهو مفهوم سبقه إليه طيب تزيني وحسين مروة وقصدا به التقليد الوسيط.

ليس من همّنا الرجوع إلى نظرية الجابري في التراث التي قامت على ثلاثية الأنظمة المعرفية البيانية والبرهانية والعرفانية، وإنما حسبنا الإشارة إلى أنّ الجابري وفّق فعلًا في تجديد الدراسات العربية الوسيطة من وجهين: الربط المنهجي بين حقول تراثية متمايزة تتفق في قواعد التفكير، وبناء رؤية إيجابية للعقلانية البرهانية الوسيطة بما يقترب من أطروحة "التنوير الإسلامي الوسيط" لدى ليو شتراوس.

ماذا يمكن القول بعد انقضاء ثلاثة عقود على صدور أعمال الجابري الأولى في نقد العقل العربي؟

لا مناص من الاعتراف أنّ المنهج التجزيئي في مقاربة التراث العربي الإسلامي لم يكن إلى حد بعيد مقنعًا ولا مبرّرًا منهجيًا. فمع الإقرار بالاختلاف الواضح بين مشارب و"مذاهب الإسلاميين" (على لغة المتكلم المعروف الأشعري) من متكلمين وأصولويين وعلماء بيان وفلاسفة، إلا أنّ أوجه التداخل الكثيف بين هذه الاتجاهات كثيرة ومتعدّدة، بما يفسّر المصاعب الحقيقية التي تعرض لها الجابري في تصنيف الكثير من وجوه الفكر الإسلامي، مثل أبي حامد الغزالي مثلًا الذي كان في آن واحد بيانيًا وبرهانيًا وعرفانيًا، بل إنّ الحكم نفسه يصدق على أكبر فلاسفة الإسلام وهو ابن سينا. كما أنّ بعض كبار المتكلمين وهم أهل البيان وصلوا إلى مصاف التفلسف البرهاني العليا كما هو شأن أبي هاشم الجبائي وفخر الدين الرازي.

الجابري أثّر في الفكر العربي المعاصر إلى حد القول بأن العصر العربي الحاضر كان جابريًا

أما الملاحظة الثانية، فهي أنّ الجابري قد قادته مقاربة القطيعة - المستمدة من الحقل الابستمولوجي - إلى نتائج مرتبكة في تحديد العلاقه بالتقليد الإسلامي الذي أطلق عليه مقولة "التراث". فهو من جهة يشعر بضرورة خوض صراع الأفكار والشرعية على الحقل التراثي (ولذا يتخطى مأزق الماركسية التقليدية) لكنه يرى تحت تأثير النزعة التاريخانية الايديولوجية ضرورة الانفصال عن المرجعية التراثية التي تنتمي لتاريخ وزمن لا علاقة لنا بهما .

لم يستفد الجابري من التصورات الفلسفية الإيجابية للتقليد في مجالاته وآفاقه التأويلية الرحبة (كما لدى غدامير وحنة ارندت وبول ريكور)، فظلّ مهووسًا بمثال الثورة التنويرية العقلانية رغم تخليه عن بعض سياقاتها النظرية والمنهجية.

لكن المرحوم الجابري رغم ذلك كلّه أثّر في الفكر العربي المعاصر أكثر من غيره، إلى حد القول بأن العصر العربي الحاضر كان بالفعل جابريًا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن