وجهات نظر

حدث ويحدث في سبتمبر/أيلول.. "خريف العرب"

يعرف المزارعون أنّ الأشجار لا تورق في الخريف، ويعرف الفلسطينيون أنّ كل الوعود بحقوقهم (أو شيء منها) كانت أيضًا في الخريف. وأنّ "أيلول الأسود" لم يكن فقط في ذكر ما جرى "شرقي النهر" في هذا الشهر الكاشف للموبقات العربية "التاريخية" في العام 1970، والذي لم ينته إلا بغياب أبدي لجمال عبد الناصر؛ نصير قضيتهم، وإنما كان كذلك "أيلول" دائمًا على أجندة القضية: بدايةً من كامب دافيد (17 سبتمبر/أيلول 1978)، وليس نهايةً بحديث ولي العهد السعودي لـ"فوكس نيوز" عن "التطبيع الذي يقترب" (21 سبتمبر/أيلول 2023) مرورًا بأوسلو؛ التي لم تأتِ لهم بدولتهم كما وعدت (13 سيتمبر/أيلول 1993)، فضلًا عن التطبيع المجاني باتفاقات ترامب "الابراهيمية" (15 سبتمبر/أيلول 2020).

حدث ويحدث في سبتمبر/أيلول..

"لا حلّ للصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلا بإقامة دولة فلسطينية مستقلة"، كما قال نصًا وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان عشية ترؤسه لاجتماع رفيع المستوى في نيويورك ضمّ ممثلين لأكثر من ثلاثين دولة بهدف إعطاء دفعة لـ"حلّ الدولتين"، الذي لم يعد "واقعيًا"، على لسان هذا أو ذاك أكثر من عبارة دبلوماسية أنيقة.

لا أظنّ أنّ هناك من يختلف مع ما جاء في التصريح الدبلوماسي للأمير/الدبلوماسي السعودي، والذي حرصت "هآرتس" الإسرائيلية أن تضعه عنوانًا لتقرير مراسلها من المدينة الأمريكية. ولكن هل تَحول تلك "الحقيقة" دون مضي قطار التطبيع في طريقه، دون حل للصراع الفلسطيني/الإسرائيلي؟

الحسابات "الداخلية" قد تدفع بـ"التطبيع" إلى طاولة التوقيع الشهيرة في حديقة البيت الأبيض ربما قبل نهاية العام

رغم الألغام العديدة في طريق "الصفقة"، وأولها المعارضة المفترضة للكونجرس الأمريكي على اتفاق أمني "كبير" مع المملكة، والمعارضة المفترضة لشركاء نتنياهو على أي تنازل "صغير" للفلسطينيين، إلا أنّ الحسابات "الداخلية" للأطراف ذات العلاقة؛ بن سلمان، الملك "المنتظر"، وبايدن؛ الرئيس "المرشح"، ونتنياهو؛ "المتهم" بالاستبداد والفساد، قد تدفع باتفاق التطبيع السعودي الإسرائيلي إلى طاولة التوقيع الشهيرة في حديقة البيت الأبيض ربما قبل نهاية العام. وبغضّ النظر عن التصريحات "التجميلية" المصاحبة، كعادة كل المناسبات "الخريفية" السابقة، فليس من المتوقع من أكثر الناس تفاؤلًا أن يكون للفلسطينيين، ولا لقضيتهم "قضية العرب الأولى"، (كما كانت تقول قمم حكامهم) مكان على الطاولة الاحتفالية المفترضة، بعد أن صار جليًا أنّ مبادرة "الملك 2002" لم تكن ضمن أوراق "ولي العهد 2023" الذي يسعى في الأساس لتأمين مملكته القادمة بمظلة أمنية أمريكية، ربما لا تحتاج طبيعتها لموافقة من الكونجرس، وهو ما جرى في سابقة بحرينية.

من نافلة القول إنّ لكلّ دولة ذات سيادة الحقّ الكامل في أن تعقد من "الصفقات" ما يتصوّر القائمون عليها أنّ فيه مصلحتها. للسعوديين إذن، كما لغيرهم أن يعقدوا (أو لا يعقدوا) صفقة يحصلون بها على اتفاق يوفّر لهم مظلة أمنية أمريكية، إلا أنه في الوقت ذاته علينا أن نعترف أن هذه الصفقة "الأمنية"، مثلها مثل كل الصفقات السابقة لن تكون أبدًا في صالح "الأمن القومي العربي"، بمفهومه الأشمل والأوسع. فكما قلتُ في المقال الفائت، إسرائيل لا تخفي (أو لم تعد بحاجة أن تخفي) أهدافها التوسّعية الاستراتيجية في شرق أوسط واسع يكون لها فيه مكانة المركز، وها هو نتنياهو منتشيًا بما وصلت إليه إسرائيل في محيطها، يقف على منصة الأمم المتحدة قبل أيام يحمل خارطة ما عُرف صهيونيًا بـ"إسرائيل الكبرى"، ليقارن بينها وبين خارطة توضح ما كانت عليه الدولة العبرية قبل خمسة وسبعين عامًا؛ عشية النكبة. كل ما هنالك أنه (خزيًا للعيون) وكإجراء دبلوماسي "تسويقي" عَنْوَن خارطته الواسعة، ذات الألوان "البراقة" الدالة بالعنوان الجذاب "The new Middle East" العنوان المراوغ ذاته لكتاب شيمون بيريز الشهير.

فضلًا عن أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي لم يتردّد في "التنبيه" إلى أنّ الفلسطينيين لا يملكون "حق الفيتو" على ما ستؤول إليه العلاقة بين دولة "الاحتلال" والدول العربية، فلا أتصوّر أنّ الاتفاق "التاريخي" المنتظر سيتضمن وعدًا للفلسطينيين بدولة "قابلة للحياة" كما كانت كل الوعود "الخريفية" السابقة، كما لا أتصوّر أن تكون هناك إشارة لمبادرة السلام العربية 2002 (مبادرة الملك عبد الله) التي ظلّت لعقود شرطًا لضمان أن يأتي السلام باستقرار حقيقي. إذ ربما لا يكون هناك "على هامش المتن" غير عبارات أنيقة فضفاضة تتحدث عن إجراءات "To ease the life of the Palestinians"؛ كما نصّ العبارة التي سمعنا في حوار وليّ العهد مع "فوكس نيوز"، عشية احتفاء رئيس الوزراء الإسرائيلي (الأكثر يمينية) أمام الجمعية العامة بالخطوات القادمة.

رياح الخريف المتتالية في سنوات العرب أطاحت بكل الأوراق والخرائط والخطط التي تحمل اسم السلام أو أسماء أصحابه

الحاصل إذن، أنه وبغض النظر عن ضرورة الأخذ في الاعتبار بالفارق الجوهري بين دول كانت في حالة حرب، وأخرى لا حدود مشتركة، ولا حروب قائمة تضطرها لهذه الموائمة (أو التنازل) سمّه ما شئت، فالبادي أنّ المملكة (حائط الصد الأخير) ماضية في طريقها للحاق بالقطار (الذي سبقها إليه آخرون)، والذي كان أن انطلق في ذلك "الخريف" البعيد 1977 برحلة السادات إلى القدس، والتي قد نتفق أو نختلف حول تقييمها، ولكن لا أظن أنّ هناك من يختلف حول ملامح المحطة الأخيرة لهذا القطار الذي بدا متسارعًا منذ أعلن ترامب عن "صفقته الإبراهيمية" (خريف 2020). أرجوكم، عودوا إلى بنود الصفقة، واقرأوا شيمون بيريز، واستمعوا جيدا لبنيامين نتنياهو، وتمعّنوا في ألوان الخريطة.  

وبعد..

فلسنا بصدد التذكير بأنّ رياح الخريف المتتالية في سنوات العرب "المكفهرة" الأخيرة قد أطاحت واقعيًا بكل الأوراق والخرائط والخطط التي تحمل اسم السلام أو أسماء أصحابه، أو أسماء المدن التي اجتمعوا فيها: اتفاقات شرم الشيخ (أكتوبر ٢٠٠٠)، طابا (يناير ٢٠٠١)، توصيات ميتشيل (مارس ٢٠٠١)، المبادرة لمصرية الأردنية (أبريل ٢٠٠١) وتفاهمات تينيت (يونيو ٢٠٠١)، ومبادرة السلام العربية (مارس ٢٠٠٢)، التي أعلنها أصحابها، بالمناسبة في قمةٍ فشلوا في دعوة عرفات - المحتجز في المقاطعة - لحضورها، ثم خارطة الطريق (يونيو ٢٠٠٣)، ووثيقة جنيف (ديسمبر٢٠٠٣)،  ومؤتمر أنابوليس (نوفمبر ٢٠٠٧).. ثم محاولة أوباما "الطوباوية" التي انهارت في شرم شيخ على صخرة الموقف الاسرائيلي القاطع بشأن المستوطنات..

بغض النظر عن الدوافع، والأسباب و"النوايا". فعندما تغيب جامعة "العرب"، ومثقفوهم، ولا يحذر من تبعات ما نحن ماضون إليه سوى إيران "الفارسية"، يكون الأمر أكثر من مجرد مفارقة، ويصبح التساؤل عما فعلته "رياح الخريف" المتتالية، بكل ما كان من "ثوابت" العرب، مشروعًا.. وواجبًا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن