وجهات نظر

المصالحة مع السياسة

الخصومة مع السياسة واقع راهن في العالم العربي اليوم والشواهد على الخصومة، في الساحة العربية كثيرة، غزيرة متنوعة معًا. ربما كانت الأسباب المباشرة التي تحمل على الخصومة وكذا تجلياتها تتفاوت في الشدة والجلاء بين بلد عربي وآخر بيد أنّ الحكم الذي نصدره يبدو، في ما نزعم على كل، صائبًا تعزّزه الشواهد وتعضده الأدلة المنطقية الصلبة. بل إني أضيف أنّ الخصومة هذه تنهض دليلًا على ما لا نزال نشكو منه من عسر الانتماء الحق إلى زمن الحداثة.

المصالحة مع السياسة

الشواهد على الخصومة مع السياسة في الوجود العربي الراهن تنطق بذاتها، فهي في غنى عن البحث والتنقيب وهي حقيقة ناصعة لا يحجبها ستار. يكفي في ذلك أن نأخذ ما يُعتبر في علم السياسة مؤشرًا دالًا على طبيعة العمل السياسي في بلد من البلدان وهو الانتخابات، من حيث انها تعبير عن طبيعة "المشاركة السياسية" وصورة تنطق بلسان حال الديمقراطية وآليات تحقّقها وكذا بالعوائق التي تقف في وجه الممارسة الديمقراطية السليمة.

"المشاركة الفعلية" في العمليات الانتخابية الكبرى ضعيفة جدًا، والأمر لا يخلو من مفارقات غريبة

والقول في الانتخابات، في وجود اجتماعي معلوم، يستدعي النظر فيه في مستويات عدة. أوّلها القاعدة الانتخابية أو نسبة الهيئة الناخبة إلى عدد سكّان البلد. وثانيها النسبة المئوية للمشاركة الفعلية في الانتخابات والتحري عن الفئات الاجتماعية المشاركة. وثالثها طبيعة العملية الانتخابية ومعرفة ما إذا كانت تتسم بالدقة والوضوح أم أنّ ممارسات غير طبيعية (تحضر فيها وسائل الضغط والإكراه من أصناف متنوعة) تفسدها وتفرغ الانتخاب من معناه. ومتى أردنا أن ننظر في أمر الانتخابات السياسية في الوطن العربي كما تبدو ماثلة للعيان، دون الوقوف المتأني عند المعطيات الميدانية (في الأحوال التي توجد فيها والتي يكون في الإمكان الوصول اليها) فإننا، إجمالًا، ننتهي إلى الخلاصات التالية عن النظر في أمر الانتخابات في العالم العربي.

ففيما يتعلق بالقاعدة الانتخابية يُلاحظ، أولًا، أنّ تلك القاعدة تتسم بالتباين الصارخ بين أعداد ساكنة البلد وبين نسب التسجيل الإرادي في اللوائح الانتخابية والتوافر على صفة "ناخب". وثانيها أنّ "المشاركة الفعلية" في العمليات الانتخابية الكبرى المنظمة (انتخاب أعضاء المجالس التشريعية الكبرى) ضعيفة جدًا، وهي لا تزال في تدن مستمر طيلة العقود الثلاثة الأخيرة. ثم ان الأمر لا يخلو من مفارقات غريبة، والشأن كذلك في المغرب (وربما زعمت لنفسي أنه قابل للتعميم على بلاد عربية كثيرة). المفارقة الأولى هي أنّ النسب المئوية للمتعلّمين، ولحملة الشهادات العليا خاصة، متدنية جدًا، متى قورنت بنسب مشاركة الفئات التي تنال نصيبًا قليلًا من التعليم، بل ومن الذين يجهلون القراءة والكتابة كليًا. والمفارقة الثانية أنّ نسب مشاركة المتقدّمين في السن تفوق، أضعافًا كثيرة، مشاركة الفئات الشبابية. والمفارقة الثالثة، وإن لم تكن صادقة كليةً على مجموع التراب الوطني، فهي أنّ نسب المشاركة في البوادي (=الأرياف) تعلو على نسب مشاركة ساكني المدن في الاستحقاقات الانتخابية.

الوعي بحال الخصومة مع السياسة أحد المداخل الكبرى لعصر الحداثة

وأما الخلاصة الثالثة، تلك التي تتعلّق بطبيعة العمليات الانتخابية فقد يكفينا فيها القول إنّ دول العالم العربي تكاد تكون من البلاد التي يلحق فيها نعتا الشفافية والوضوح بالعملية الانتخابية، فنحن في بلداننا نتحدث عن "الانتخابات النزيهة والشفافة". وإن من شأن النعتين (الشفافية والنزاهة) وقد أقرنا بالعملية الانتخابية أن يجعل جان جاك روسو، صاحب الكتاب الأشهر "في العقد الاجتماعي" - وهو الكتاب الذي جعل فيه للانتخاب بابًا مفردًا، لعلّه لبّ الكتاب وجوهره - ذلك أنّ الانتخاب تعبير عن الإرادة الحرة، والعقل، والمواطنة. حديث "الشفافية والنزاهة" يحمل على الشك فهو لا يخلو من سوء الظن والابتعاد عن السواء.

الوعي بحال الخصومة مع السياسة أول الدرب في سلوك سبيل الحياة السياسية الطبيعية وهو، في العمق، أحد المداخل الكبرى لعصر الحداثة المأمول.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن