بصمات

الرواية العربية... حيث فَشَل السياسات

نجحت الرواية العربية في العقود الأخيرة أن تكون جزءًا من التحوّلات السياسية والإجتماعية والثقافية بين مغرب ومشرق، لا سيما مع تلك الأسماء المعقودة في تفكيرها ونصوصها وانفتاحها وأصواتها الروائية، وفي أبحاثها المتعلّقة في التفكيك والتحليل والإستقراء والإستنتاج، في نصف قرن وأكثر من الانتاج الروائي المؤسس والمجدّد في نقد الفكر الشمولي.

الرواية العربية... حيث فَشَل السياسات

كانت الرواية ثمرة إهتمام عالمي بغيّة العثور على مخارج جديدة في التحليل والتفكير والنقد، ونجحت في مدّ الفكر بالأدوات واللغة التي يحتاج إليها بمقاومة حالة الضياع السياسي والعدم والقنوط واليأس والإقصاء في مواجهة النزاعات العميقة القبلية والمسلّحة التي لا تحترم الإختلاف والتعددية..

لا شيء أكثر تهديدًا للفكر من الإعتقاد بنهاية سرديات نافدة، ومن تسرّب الذاتية، والأهم أن لا نصدق الشخوص الجامدة والمصمّمة على عدم التجاوب مع الذي يحيط بها من قضايا وهموم اجتماعية وإنسانية. هذا الجزء من العالم يبقى مغلقًا بالصمت، لأن بنى السلطة تجبره على الهجرة والإنتفاء، فتقتحمه الرواية في رغبة التمرّد على البنى التي لا تستطيع طمأنتها، سواء الشمولية منها أو الرأسمالية أو النظام البطريركي أو الهيمنة الجسمانية الذكورية أو مجتمعات الكراهية في قصة أمين معلوف، (مثل أعماله)، تجعل منه عابرًا للحدود، مصممًا على "تقويض" ما سمّاه في خطاب الأكاديمية الفرنسية العام 2011 "جدار الكراهية بين الأوروبيين والأفارقة، بين الغرب والإسلام"، حيث ظهر كاتبًا قادرًا على بناء الجسور بين الثقافات والانتماءات. تأخذنا الرواية إلى الواقع الذي تزدحم فيه الأسئلة والرصاص في مجتمعات مهووسة بالقتال، أكثر من أن تكون مهتجسة بفكرة الإنسان الكوني أو المواطن العالمي.

انخرطت الرواية في التجديد والتغيير والتطوير ووعي المجتمعات 

تحتاج الهيمنة التوحشيّة (أو اللطيفة أحيانًا) إلى المعرفة في أحوال المجتمعات من أجل أن ترى ذاتها من جهة، ومن أجل رفع الفاعلية من جهة أخرى (ميشيل مافيزولي). لسنا في مجال تأريخ الرواية العربية، وليس التنظير لرؤية أخرى. لكن البحث في النسق الذي طرأ على الرواية العربية مهم، لأنه كان تعبيرًا عن التحوّلات جراء عوامل متعددة في مناخ من تأثيرات وتجاذبات داخلية وخارجية. فتطوّرت الرواية من أنماط السيّرة الذاتية إلى براغماتيات التحولات، وانخرطت في التجديد والتغيير والتطوير والتحوّل ووعي المجتمعات جماليًا وإنسانيًا.

أدباء أقطارنا عانوا طويلًا من التغييب والتبخيس والإقصاء. فقدّموا نماذجًا في التعبير عن ذواتهم ومجتمعاتهم وأحلام أجيالهم وطموح أمّتهم. هذا بالنهاية خيار وتراكم معرفي في تجارب، كانت الأقدر على إنتاج المعنى والخبرات العميقة، ليس هذا فحسب، فالذات البشرية لا تتشكّل وحدها داخل صيرورة تقودها صوب التحرّر، ما ينعته هابرماس بـ"الفضيلة التحرّرية في التفكير الإنعكاسي".

الأدب هو نظام يستشرف التحوّل بعيدًا عن التوظيف الإيديولوجي

الرواية شرقًا وغربًا، تريد أن تلفظ العنف بكلّ أشكاله من غير أن تصل إلى نتيجة حاسمة بتلك الحاسيّة من "مديح الكراهية" (خالد خليفة) مع أولئك الذين يتعايشون معًا. ولهذا كان علم الاجتماع عند دوركهايم ومارسيل موس من ناحية التأكيد على الإختلاف، وإنتقال الفرد من خارج العالم إلى الفرد داخل العالم. أوليس شكسبير، ذلك الجندي المتسلط والمحافظ الذي يبوح بأشياء غريبة عن النظام الذي وقف حياته للذود عنه / لغة العدالة والظلم معًا.

الرواية تقول للناس إنّ الأمور بلغت هذا الحدّ في المجتمعات العصيّة على التطوّر، وحيث يمكن التصدي بجدارة لمدار العالم في المناطق "غيرالرتيبة". قد يكون زمن الرواية هو زمن العصر الكلاسيكي والذي يتضمن حالة يعالج فيها الماضي والمستقبل وكأنهما تشكّلات واحدة. فالأدب هو نظام منذ أيام أرسطو، يستشرف التحوّل بعيدًا عن التوظيف الإيديولوجي التي قامت عليه "المدرسة الواقعية"، فأساءت فهم بول سارتر، وبشكل أعمق عند ألبير كامو. ليست الرواية العربية إلا مجموع الظروف التي يجب أن تتحقّق مدينيًا (نجيب محفوظ) ، وعوالم ممكنة غير مضطهدة بـ"مواسم الهجرة إلى الشمال" (الطيب صالح) أو في الجزائر أو في سوريا.. وبعناوين مختلفة ترتبط بصرخة إميل زولا الشهيرة "إني أتّهم".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن