السوق، دون اقتصاد في السوق، هو حالة بدائية، تتبارى السلع والخدمات من بين ظهرانيها دون وساطات فعلية، تقنّن العلاقات وتحدّد المعايير وتزجر التجاوزات لقواعد في اللعب محددة ومرسومة ومتوافق بشأنها.
اقتصاد السوق هو الذي يرفع عن السوق بدائيته وتلقائيته، ويدمجه في منظومة الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، دع عنك أنماط التراكم وطبيعة العلاقات الإنتاجية التي تترتب عنه أو تشتغل في إطاره.
المصلحة الخاصة مدخل جوهري لبلوغ المصلحة العامة
الأصل في السوق، ثم في اقتصاد السوق، هو الحرية، أي غياب الإكراه، بسلوك ما من داخل مجال التباري والتنافس، أو من خارجه عبر قوانين تحد من ذات الحرية، أو تعيقها، أو تفسد بعضًا من قواعد اللعبة من بين ظهرانيها.
ثم إنّ الأصل في السوق هو التنظيم، حتى إذا كان لمستويات التقنين أن تتدخّل، فلضمان التنظيم فقط، وليس من أجل المسّ بقواعد في العمل محددة سلفًا من لدن الفاعلين المباشرين.
ولما كانت حرية الفعل هي الأصل، فإنّ الليبيرالية إنما أتت لتمنحها اللبوس النظري، وإلى حدّ ما اللمسة الإيديولوجية، التي لا بد منها لإضفاء الشرعية والمشروعية عليها.
الليبيرالية تتماهى لزامًا مع اقتصاد السوق، وإذا كان لها أن تتساوق مع السوق في صيغته البدائية، فعرضيًا ومن باب سنن التدافع الغريزية الخالصة، المرتكزة على نزعة البقاء والاستمرار.
تنطلق الليبيرالية، في خلفياتها وطبيعتها ومنطوقها، من "مُسَلّمة" أنّ الحرية الاقتصادية (أي حرية التملّك والعمل والكسب) هي من صميم فعل الفرد، وأنّ احتكام هذا الأخير لمصلحته الخاصة، كفيل تلقائيًا بتحقيق المصلحة لباقي أفراد المجتمع. اللازمة هنا هي اعتبار المصلحة الخاصة مدخلًا جوهريًا، لا بل المدخل الواحد والوحيد، لبلوغ وضمان المصلحة العامة، بما هي مصلحة المجتمع برمّته.
النظام "الطبيعي" داخل المجتمع هو بدوره وبالقطع، نظام اقتصادي يقوم على تبادل المنافع بين أفراد، قد لا تكون لهم بالضرورة روابط اجتماعية أو ثقافية أو أخلاقية أو ما سواها.
أما النظام الاجتماعي المترتّب عن كلّ ذلك، فلا ينبني هو الآخر، على "إرادة مسبقة لأفراد عقلانيين" منتظمين داخل مجتمع، وإنما على مجرد سعي كل فرد "مستقل" لإدراك مصلحته الشخصية، بشكل أناني لا يخضع بالمرّة لأحكام القيمة في التقدير.
الدولة في معظم البلدان العربية تتدخّل لا لاستنبات النسقية بالسوق بل لخدمة مصالح فئوية
تذهب الليبيرالية حدّ القول بأنّ هذه المصالح الفردية كفيلة بالتفاعل فيما بينها، والانصهار في مصلحة جماعية، دون أن يكون ذلك عن سابق إصرار وتدبير، أو بإرادة واعية من طرف أفراد المجتمع.
لا حاجة هنا للدولة كـ"يد مرئية"، ما دامت "اليد الخفية" الناظمة لاقتصاد السوق قادرة على قيادة الأفراد في سعيهم خلف مصالحهم الخاصة، التي ستقود بالقطع لتحقيق المصلحة العامة للمجتمع. ثم لا حاجة للدولة أو لمستوياتها الوسيطة، الّلهم إلا فيما يخصّ تدخّلها لسنّ القوانين والتشريعات الكفيلة، والكفيلة فقط بضمان حقوق الأفراد الاقتصادية، والحؤول دون أي انتهاك محتمل قد يطالها أو يعتورها.
بيد أنّ الدولة في معظم البلدان العربية، تتدخّل لا لاستنبات النسقية بالسوق، بل لخدمة مصالح فئوية تضرّ هذا الأخير أكثر ممّا تنفعه. إنها تتدخّل لاستصدار الثروة من داخله لفائدة أوليغارشيات نفعية، مجبولة على الافتراس. الدولة بذلك، لا تفسد نسقية السوق فحسب، بل تحول دون تكريس قيم الليبرالية من بين ظهرانيه، فيبقى السوق في وادٍ و"قيم" الليبرالية في وادٍ آخر.
(خاص "عروبة 22")