ما أحوجنا إلى روح حرب أكتوبر المجيدة في عيدها الخمسين ونحن في أتون معركة لا تقل أهمية للعبور نحو التقدم والتنمية وإرساء معالم جمهوريتنا الجديدة، لنصبح في مصاف البلدان المتقدمة.
روح أكتوبر التي حطمت جدران اليأس، وتخطت حالة الهزيمة، واستعدنا فيها الأرض والكبرياء، وتخطينا فيها الصعاب، عندما عبر جنودنا أكبر حاجز مائي، وحطم خط باريف الحصين على طول قناة السويس، والذى قيل عنه إنه أقوى خط دفاعى في العالم، بتحصيناته القوية، وقوته النارية، والحواجز التي لا يمكن تخطيها، فبعد الحاجز المائي الذى تشكله قناة السويس، وما فيه من فتحات لخروج النابالم، والتي تحيل القناة في لحظات إلى ألسنة لهب يصعب إطفاؤها أو التغلب عليها أو اختراقها، تليها سواتر ترابية عالية، وحقول ألغام، وأسوار من الأسلاك الشائكة، حتى الوصول إلى الدشم الحصينة، والفتحات التي تخرج منها أفواه المدفعية، ومنصات الصواريخ، والدبابات الرابضة في مكامنها، والجنود والضباط المدربين على استخدام كل أدوات التدمير، ومعهم كل أنواع الأسلحة.
لكن قوارب جنودنا، وسلالمهم المصنوعة من الحبال والأخشاب، والجسور التي امتدت على طول القناة في دقائق معدودة، وبراعتهم في سد منافذ النابالم، وإزالة السواتر الترابية باختراع مدافع المياه، وهم يرددون صيحات الله أكبر لتزلزل أعداءهم، وهم يقتحمون الصعاب، غير مبالين بالموت، بل يطلبونه فداء لأرضهم وبلدهم ومستقبل شعبهم، ويسطرون ملحمة ستبقى خالدة، تعلم الأجيال كيف يمكن تجاوز كل الصعاب، بالتضحية والعمل الدؤوب، والإيمان والثقة في النصر، والتسلح بالعلم والأخذ بكل أسباب النصر، لنتمكن من التغلب على قوات الاحتلال بكل ما تملك من قوات وأسلحة متطورة.
هذه الملحمة لم تتحقق بين يوم وليلة، ولا يمكن اختزالها في تلك اللحظات المتوهجة عندما عبر جنودنا قناة السويس وسط أمطار من القذائف واللهب، والتي لا يمكن وصفها، ولم يسنح تصوير حقيقي لها، وإنما بضعة مشاهد سينمائية لم تفلح كثيرا في إظهار تلك اللحظات الخالدة، التي كان وراءها الكثير جدا من الجهد والعرق والتعلم والتدريب والتجهيز.
لقد عاشت مصر تستعد طوال سنوات من أجل تحقيق هذا النصر، وتحملت الكثير، فالاحتلال كان قد حرمنا من نفط سيناء في بلاعيم ورأس سدر، وتعرضنا فترة لشح مشتقات البترول، الذي يدير المصانع والنقل ومختلف جوانب الحياة، مثلما حرمنا العدوان من دخل قناة السويس، بالإضافة إلى خسائرنا من المعدات، وخسرنا الكثير من خيرة جنودنا وضباطنا، لكننا لم نيأس، ولم نرتكن إلى الهزيمة، بل نهضنا بسرعة، نبني ونزرع، وننتج، لنوفر أموال المجهود الحربي لإعادة بناء قواتنا المسلحة، وننشئ حائط الصواريخ المضادة للطائرات، لمنع قصف قواتنا ومدننا ومنشآتنا الحيوية، وواصلنا حرب الاستنزاف، ليس لتكبيد العدو الخسائر فقط، بل لكي نكتسب خبرة القتال الفعال، ورفع روحنا المعنوية، وحققنا ذلك فى الكثير من المعارك، مثل معركة رأس العش وإغراق المدمرة إيلات، وشن الهجمات خلف خطوط العدو، وهذا ما أدرك أهميته الرئيس عبد الفتاح السيسي في معركة البناء والتنمية، عندما قرر شق قناة السويس الجديدة، لتكون قوة دفع معنوية، يشارك فيها الشعب، ويستعيد الثقة في قدرته على البناء وتحقيق الآمال العريضة التي قرر أن يحولها إلى واقع، مهما كلفتنا معركة التنمية من جهد وعرق ومال وصبر، شريطة أن نتحلى بالإرادة القوية، وأن يلتف الشعب المصري حول مشروعه الوطني من أجل إقامة الجمهورية الجديدة، المرتكزة على عوامل القوة الاقتصادية والعسكرية وقدرة الشعب على بناء مجتمع متقدم، تتوافر فيه كل الخدمات والصناعات الحديثة، وأن يلحق بركب البلدان المتقدمة، ويحتل المكانة التي تليق بمصر ذات الحضارة الزاهية، التي علمت البشرية، ويستحق الشعب المصري أن يصل لمكانة لا تقل عن أي شعوب أخرى، لما له من تاريخ حضاري عريق، يمكن استعادة بريقه، والوصول إلى ما وصل إليه أجدادنا، واختار الرئيس عبدالفتاح السيسي أن يشق أصعب الطرق، وأقصرها نحو التنمية الشاملة، وألا يكتفي بتحقيق جانب واحد، أو خطوات قصيرة يمكن أن تجلب الرضا الشعبي، لكنها لا تحقق الحلم الأكبر، والغاية الأبعد، والوصول بمصر إلى ركب العصر الحديث، من خلال بنية أساسية متطورة، وشبكة طرق تضاعف المساحة المأهولة المختنقة بالتكدس السكاني، وبناء مدن جديدة، تصبح ركائز التقدم العمراني والإنتاجي، وتحقق النقلة التي نبتغيها في مضاعفة الناتج القومي، وتحقيق مستوى معيشة مرتفع، من خلال صناعات متطورة، ومزارع جديدة، ومصادر طاقة متنوعة، جيل من الشباب المبتكر والمبدع والمكتسب للعلوم والمهارات الجديدة.
هذا هو الحلم الذي يجمع شمل مصر، ويحقق لها ما تصبو إليه، وخطونا نحوه خطوات واسعة وجبارة في مدة قياسية، فمن ينظر إلى منطقة شرق التفريعة، أو الدلتا الجديدة، أو أساسات مفاعل الضبعة أو العاصمة الإدارية سيكون من السهل عليه أن يدرك أننا نسير بخطوات واسعة وواثقة من أجل تحقيق نمط جديد من التنمية الشاملة، وأن ما يتحمله الشعب المصري من جهد وعرق وصبر وجلد سيكون له عوائده التي تستحق كل هذا العناء وتلك التضحيات، وأن العائد لن يقتصر على جيل واحد، بل تتوارثه وتطوره أجيال بعد أن يكون جيلنا قد شق لهم الطريق نحو التقدم والتحديث والتنمية المستدامة، وأن يكون قد قطع أصعب الأشواط في مسيرتنا نحو القمة.
إننا ندرك صعوبة ما تحقق، وأن الخطوات الأخيرة لا تقل صعوبة، وبعد أن لاح لنا فجر جمهوريتنا الجديدة في الأفق، لا يمكننا أن نتخلى عن مواصلة الخطوات الأخيرة، ولا أن نعود إلى الوراء، بل ستزيدنا ثقة ويقينا بأننا قادرون على إكمال المسيرة وتحقيق الحلم الكبير، وأن يكون عبورنا الإنمائي مستمدًا من روح عبورنا الملحمي المتمثل في نصر أكتوبر العظيم، ومكملًا لهذا الانتصار، بالتغلب على تحدياته، وتحمل مشاقه، والوصول بمصر إلى المكانة التي تستحقها.
("الأهرام") المصرية