ظهرت ملامح هذا الحراك مع رؤية وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لدور المملكة ومستقبلها، أطلقها عبر إجراءات وتغييرات داخلية طالت نواحي كثيرة في السياسة والاقتصاد والاجتماع وقامت على ضرب التطرّف وتجديد الخطاب الديني والابتعاد عن التزمت الثقافي والاجتماعي، وإعادة هيكلة الاقتصاد السعودي بالابتعاد عن اعتماده على النفط وتحويل البلاد إلى مركز استثماري مهم يوفر الوظائف وفرص العمل للملايين من السعوديين الشباب.
خارجياً، ارتكزت الرؤية على تحقيق استقلالية القرار السعودي وإعطاء الأولوية للمصالح الوطنية، تحت مظلّة تحقيق توازن في العلاقات الدولية والإقليمية بين الشرق والغرب وتصفير المشاكل. أما في الإمارات، فقد اعتمد وليّ العهد ومن ثم الرئيس، الشيخ محمد بن زايد، مواءمة مرنة بين السياستين الداخلية والخارجية، استندت إلى تنويع مصادر الدخل ومصادر التسلّح والشراكات الإقليمية والدولية والاستثمارات الخارجية، قادت البلاد باتجاه أكثر تعدّدية.
فشل 4 إدارات أميركية بمقاربة الموضوع الإسرائيلي - الفلسطيني وأدوار إيران المزعزعة للاستقرار وملفها النووي
هذه التغييرات سبقتها ولحقتها مصالحات بدأت بمصالحة دول مجلس التعاون مع قطر، والقمتين مع أميركا ومع الصين في السعودية، وتطبيع الإمارات والبحرين مع إسرائيل، حتى وصلنا إلى المصالحة مع إيران وإعادة سوريا إلى جامعة الدول العربية وإعلان قمّة جدّة. ولا بد من الإشارة إلى أمرين: الأول أنّ التغيير انطلق من دول الخليج وهي الأكثر إستقرارًا وثراءً من باقي الدول العربية التي يشهد معظمها نزاعات وعدم استقرار سياسي واقتصادي، والثاني أنّ التغيير بدأ من الداخل ثم انتقل إلى الخارج.
المشهدية الجديدة هذه حصلت على خلفية من الأحداث والسياسات الدولية والإقليمية، أبرزها التسلّل الإيراني إلى المنطقة الذي بدأ بنشأة "حزب الله" اللبناني وانتهى بسيطرة إيران على أربع عواصم عربية عبر رعايتها لميليشيات محلية موالية لها. هذه الهجمة الإيرانية واكبها تراجع أميركي من المنطقة وفشل أربع إدارات أميركية بمقاربة مشاكلها سواء الموضوع الإسرائيلي - الفلسطيني أو أدوار إيران المزعزعة للاستقرار وملفها النووي، أو الحربين السورية واليمنية واعتداءات الحوثيين على السعودية والإمارات، والكثير من الغموض تجاه لبنان والعراق وغيرهما، سياسة دفعت المنطقة ثمنها غاليًا. تداعت خطوط أوباما الحمر وتلاشت مفاعيل قنابل ترامب الصوتية ولم تؤدّ العقوبات إلى تغيير الواقع المأساوي على الأرض.
روسيا استغلت التراجع الأميركي وعادت بزخم إلى المنطقة عبر البوابة السورية
في المقلب الآخر من المحيط، ظهرت دول القارة العجوز مفكّكة وعاجزة عن وضع رؤية موحدة لصياغة استراتيجية لمعالجة المشاكل التي عصفت بها، من الهجرة غير الشرعية وتصاعد الشعبوية واليمين المتطرف، مرورًا بأزمة الطاقة والركود الاقتصادي، وصولاً إلى صدمة الحرب الروسية على أوكرانيا. أما روسيا، فقد استغلت الفراغ الذي خلّفه التراجع الأميركي وعادت بزخم إلى المنطقة عبر البوابة السورية وتوغلت في أفريقيا وآسيا الوسطى والقوقاز في مسعى لاستعادة دورها كقوة عظمى. وخلال العقد الماضي، عملت الصين على زيادة نفوذها في المنطقة عبر مبادرة الحزام والطريق وأقامت علاقات ودّية مع مجموعة متنوعة من الدول، بما في ذلك تلك الموجودة على جانبي الانقسامات الإقليمية. وقد مثّل إعلان استئناف العلاقات الإيرانية - السعودية من بيجين مفاجأة كبرى لا تقلّ عن مفاجأة التطوّر الذي طرأ على العلاقات بين الجارتين الخليجيتين، فالصين التي لم تكن ذات نفوذ مهمّ في المنطقة حتى وقت قريب تمكنت من القيام بوساطة ناجحة في منطقة محسوبة تاريخيًا على النفوذ الأميركي.
إسرائيل تعيش اضطرابات سياسية واجتماعية عميقة وتشهد طفرة للقوى الدينية واليمين المتطرف
بالنسبة لدول الجوار العربي، انخرطت تركيا في عدد من ساحات الصراع فتدخلت في سوريا لتأمين خاصرتها الجنوبية ودعمت قطر عندما تعرضت للحصار ووقفت إلى جانب حكومة الوفاق الوطني في ليبيا وساندت أذربجيان في هجومها العسكري لإخراج القوات الأرمينية من ناغورنو كاراباخ. أما إسرائيل، فهي تعيش اضطرابات سياسية واجتماعية عميقة وتشهد طفرة للقوى الدينية واليمين المتطرف، إضافةً إلى عجزها عن الحسم العسكري في غزّة ودخولها من طرف واحد شبه حرب استنزاف مع إيران على الأراضي السورية. وسط كل ذلك، جاءت ذيول الربيع العربي مخيبة للآمال، وعلى الرغم من أن عددًا من الدول التي وصلتها رياحه تخلّصت من أنظمتها الاستبدادية، إلا أنها دخلت متاهات الحروب الأهلية ووصل بعضها حدّ الدول الفاشلة.
علاقات الرياض وطهران ستكون دافئة وليست حميمة
هذا الصخب الدولي والإقليمي والوطني، ألقى بظلاله على معظم الدول العربية وخصوصًا دول المشرق العربي، وثمّة أسئلة عدة تطرح حول ما ستؤول إليه الأوضاع في بعض المسائل الحيوية في ظل المسار العربي الجديد الذي ظهّرته قمة جدة ويحاول إمساك العصا من طرفيها: التهدئة مع إيران من جهة ومع إسرائيل من جهة أخرى بهدف تجفيف النزاعات والتركيز على التنمية والتحديث. فهل من نتائج ملموسة قريبًا؟
الإجابة تختلف من مسألة إلى أخرى، إنّما المرجح أنّ الإقليم يمرّ بمرحلة تهدئة وتفاهمات بدأت بالتطبيع بين الرياض وطهران قد ينعكس على الحرب الدائرة في اليمن ولعله الكاسب الأكبر من التهدئة، وعلى الحملات الإعلامية بين البلدين وحلفائهما.
العلاقات بين الرياض وطهران ستكون دافئة وليست حميمة وستشهد استرخاءً دون أن يعني ذلك توافقًا تامًا ودائمًا بسبب الخلاف العقائدي الكبير بين الدولتين والتناقض الكبير بين مشروعيهما، وصعوبة تخلي إيران عن كلّ المكتسبات التي حقّقتها على مدى عقود إنما قد تحجم عن التمدّد.
صاعقان قد يعكّران صفو التفاهمات في المنطقة: البرنامج النووي الإيراني وما سترسو عليه الأمور في إسرائيل
بالنسبة إلى سوريا وعودتها إلى جامعة الدول العربية ومستقبل النزاع فيها، يخطئ من يظنّ أنّ إيران ستتخلى عنها لأنها تحتلّ مكانةً استراتيجيةً في مشروع هيمنتها الإقليمية وتضمن عبرها سيطرتها على كل من لبنان والعراق. ونشير هنا إلى أنّ الهيمنة الإيرانية في بيروت ودمشق وبغداد وحتى غزّة، تتم عبر ميليشيات محلية موالية لها، وليس عبر قواتها الخاصة، ومن هنا صعوبة التصدي لها. من جهته، لن يغيّر النظام السوري جلده بين يوم وآخر، وثمة سذاجة في المغالاة بنيّته العودة إلى الحضن العربي "إيمانًا واحتسابًا"، ومن المرجّح ألا تغيّر هذه العودة طبيعة العلاقة بين النظام السوري وإيران، خصوصًا أنّ الشروط المفترضة لعودته ما تزال غامضة وهو أعجز من أن يخرج من عباءة إيران المدين لها ببقائه.
صاعقان قد يعكّران صفو التفاهمات في المنطقة، الأول هو البرنامج النووي الإيراني الذي وصل إلى درجة اللاعودة، ويبدو أنّ الجميع نسيه مع المستجدات الدولية وأبرزها الحرب الروسية على أوكرانيا وتداعياتها. الثاني مرتبط بما سوف ترسو عليه الأمور في إسرائيل وانعكاساته على الموضوع النووي من جهة، وعلى العلاقة مع الفلسطينيين وتاليًا مع الدول العربية المطبّعة وغير المطبّعة. يبدو أنّ التطبيع مع إسرائيل وضع راهنًا على المقعد الخلفي، فالعملية العسكرية الأخيرة ضد غزّة وما استدعته من إدانة عربية أثبتت أنّ استراتيجية إسرائيل للخروج من عزلتها عبر إرساء علاقات دبلوماسية مع دول الخليج وتهميش القضية الفلسطينية فاشلة، ولا تشكل بديلًا عن التوصّل لتسوية عادلة مع الفلسطينيين.
بالمحصّلة، قد تكون دول الخليج نجحت في صون أمنها من المدّ الإيراني، إنما دول المشرق، وتحديدًا سوريا ولبنان وغزّة إلى حد ما، مرشحة أن تبقى في المديين القريب والمتوسط ضمن الفلك الإيراني، أما العراق فله خصوصية معيّنة لكن إيران لن تتخلى عن دورها في العراق سياسيًا وأمنيًا.
(خاص "عروبة 22")