مفردات هذه التحديات ربما يكون أعظمها تلك المرتبطة بسيناريو متوقع في مالي بإعلان دولة الخلافة فيها بعد تضخم تنظيم "القاعدة" خلال عام ٢٠٢٤ طبقًا لتقديرات غربية، حيث يرتكن هذا التقدير على تضخم قدرات "إياد أغ غالي" ذلك الرجل الجزائري الطوارقي الذي كان منتجًا لعشريتها السوداء، والذي أعلن عام ٢٠١٢ تأسيس جماعة أنصار الدين في مالي والذي خاض حربًا ضد فرنسا بعد انخراطها في عملية برخان بمالي عام ٢٠١٣.
تحت مظلة هذه التطورات استطاع "إياد أغ غالي" عام ٢٠١٧ توحيد فسيفساء من التنظيمات المتطرّفة في منطقة الساحل الأفريقي مثل "المرابطون" و"جبهة تحرير ماسينا" وغيرهما فيما يعرف بـ"تحالف نصرة الإسلام والمسلمين"، وهو الأمر الذي سمح بأن تكون موازين القوى لصالح التحالف الوليد على حساب الحركات الأزوادية التي لها مطامح في الحكم الذاتي أو حتى الاستقلال شمالي مالي.
السيولة السياسية والأمنية في السودان وليبيا رافد رئيسي لتغذية قيام "دولة خلافة" متطرّفة في الساحل الأفريقي
المشكل الرئيس أنّ تحالف "نصرة الإسلام" والمرشح أن يكون قائدًا لدولة الخلافة في دول الساحل أو بعضها على الأقل يملك حاضنة شعبية حقيقة نظرًا لعجز مؤسسة الدولة عن حماية مواطنيها من هجمات العصابات والمعروفة باسم "الهمباته" في غرب أفريقيا والتي أصبحت مستهدفة أراضيهم ومواشيهم في الفترة الأخيرة وتنتقل من دولة إلى دولة طبقًا لحالة السيولة الأمنية فيها، ولعلّ مؤشرات مركز مكافحة الإرهاب بالأزهر الشريف تعطينا صورة واضحة عن الحالة الأمنية المتردية في إقليم الساحل الأفريقي، ذلك أنه خلال أغسطس الماضي فقط شهدت المنطقة ٩ عمليات إرهابية؛ ٧ منها في بوركينا فاسو وحدها، وهي الدولة التي قام فيها أكثر من انقلاب عسكري في الثلاث سنوات الأخيرة بسبب تصاعد التهديدات الأمنية، وقال قائدها الحالي العقيد إبراهيم تراروري إنّ تحقيق الأمن يحوز أولوية على إعادة الشرعية الدستورية في بلاده.
الفقر والبطالة أعطيا زخمًا لتنظيم "أغ غالي"، حيث استطاع أن يجد زخمًا بشريًا منضويًا تحت لوائه، خصوصًا وأنّ تنظيمي "القاعدة" و"داعش" في بعض مناطق الساحل كانا يعتبران أن الشباب غير المنضوين تحت لوائهما هم أعداء محتملين، ومن هنا زادت القدرات البشرية للتنظيمات المتطرّفة بشكل عام بسبب حالتي الخوف على السلامة، والعوز الحاد وربما الجوع الناتج عن الفقر.
بالتأكيد، حالتا السيولة السياسية والأمنية في كل من السودان وليبيا تعدان رافدًا رئيسيًا لتغذية ودعم سيناريو قيام "دولة خلافة" متطرّفة في منطقة الساحل الأفريقي طبقًا لتقديرات غربية. السؤال هنا كيف تتعامل دول شمال أفريقيا العربية مع هذا التحدي وكيف تحافظ على أمنها القومي واستقرارها السياسي في ضوء مثل هذه التحديات؟.
المقاربات المطروحة حتى الآن من دول شمال أفريقيا لا تبدو مناسبة لا على صعيد التنسيق الإقليمي العربي، ولا على صعيد امتلاك مفردات نظم حكم قوية ومستقرة، ذلك أنّ محاولات القاهرة في التنسيق الإقليمي لمكافحة الإرهاب وقفت ضدها فرنسا عام ٢٠١٥ حينما سعت مصر إلى تشكيل إقليمي عسكري تحت مظلة دول الساحل والصحراء في اجتماع عُقد في شرم الشيخ تحمّس له الأفارقة فحضر منهم ٢٦ وزير دفاع. أما على المستوي العربي فإنّ مشكلة الصحراء الغربية تشكّل عائقًا أمام تفاهم مصري جزائري مغربي لمواجهة تحدي حالة دول الساحل الهشة.
على صعيد موازٍ، تتطلّب مكافحة الإرهاب نظم حكم تأخذ بعين الاعتبار آليات الحكم الرشيد، أي التعبير الصحيح والواقعي عن توجهات المجتمعات، وليس هندسة البيئة السياسية في اتجاهات محددة لإنتاج نظم حكم سابقة التجهير، مثل الحالة الراهنة في مصر والتي تعطي فرص لتصاعد حالة الاحتقان السياسي وإمكانية حدوث انفجارات شعبية، بفعل ضغوط اقتصادية تستفيد منها جماعات الإسلام السياسي كجماعة الإخوان المسلمين التي من المرشح أن تتحالف مع جماعات التطرّف سواء في السودان أو في دول الساحل لتخلق طوقًا محكمًا ضد نظام سياسي تعتبره عدوها الأول بعدما أطاحت ثورة يونيو/ تموز 2013 بنظام "الجماعة" من سدة الحكم.
حالة تونس والجزائر رغم ما بينها من فروقات واضحة في درجة الاستقرار السياسي، لكنها لا تنفي وجود مشكلات داخلية مهددة بشكل أكثر وضوحًا وقوةً في تونس.
التحوّل الديمقراطي والتقدّم الاقتصادي القائم على التنمية البشرية، من المداخل التي تجعل نسيج الدولة قويًا ومتماسكًا
المشهد الإجمالي لدول شمال أفريقيا العربية لا يملك مؤشرات على قدرة مواجهة التحدي المتوقع انفجاره من دول جنوبها أو حتى من قطاع في قواعدها الاجتماعية الداخلية، حيث يتم تجاهل الخبرات المتراكمة بشأن أنّ تصاعد التهديدات الأمنية يتطلّب مداخل متعددة ومتوازية، فالحل الأمني بقيادة نظم سلطوية ممتدة حتى ولو امتلكت حليفًا غريبًا غالبًا ما تكون قيد الانفجار بدلائل انقلابات دول الساحل الأفريقي العسكرية، وحالتي السيولة الأمنية في كل من ليبيا والسودان الناتجة عن ثورات شعبية هي منتج نظم حكم ممتدة أكثر من اللازم.
وطبقًا لذلك، ربما تكون خريطة الطريق المطروحة للسلامة الممتدة هي مداخل التحوّل الديمقراطي والتقدّم الاقتصادي القائم على التنمية البشرية المستدامة والمتوازنة، فهي المداخل التي يمكن أن تجعل نسيج الدولة قويًا ومتماسكًا وتستطيع بها أن تفعل آلياتها الأمنية منطلقة من منصة الاستقرار السياسي المؤسّس على رضا وتوافق شعبي يملك المصداقية الواقعية.
(خاص "عروبة 22")