تقدير موقف

الآثار قصيرة المدى وبعيدة المدى لـ"طوفان الأقصى" (2/1)

قد لا تستمتع إسرائيل بالعيش خمسين سنة أخرى مثلما عاشت بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول جلدت فيها ذاتها ولا تزال على "تقصيرها الكبير الأول" على إخفاق استخباراتها وجيشها وقيادتها السياسية في تحليل كل المؤشرات والمعلومات والحوافز السياسية لدى الفلسطينيين، وبالتحديد لفلسطينيي قطاع غزة لشن هجوم كبير وشيك على إسرائيل.

الآثار قصيرة المدى وبعيدة المدى لـ

كما تجاهلت جولدا مائير وموشي ديان وإيلي زاعيرا كل التحذيرات والإشارات الحمراء التي  نقلها لها للأسف مسؤولون عرب أربع مرات على الأقل قبل اندلاع حرب أكتوبر/تشرين الأول، ها هو   بنيامين نتنياهو ويوآف جالانت وديفيد برنياع يرتكبون "التقصير الثاني الأكبر" في تاريخ دولة الاحتلال عندما اجتاحت "كتائب عز الدين القسام" وتبعها معظم فصائل المقاومة كل خطوط الدفاع الإسرائيلية بطول الحدود مع غزة.

 ولهذا فإنّ أيّ تقدير للموقف بعد النجاح الأسطوري لعملية "طوفان الأقصى"، لا بد أن يفصل بين الآثار قصيرة المدى والآثار متوسطة وطويلة المدى.

في المستوى قصير الأمد نحن نتحدث عن التطورات التالية:

● نحن أمام حرب قد تستمر أسابيع وربما شهورًا في إسرائيل التي تمرغت كرامتها في الوحل  وسقطت هيبتها كدولة وكجيش يدّعي أنه لا يُقهر، ولن توفر سلاحًا لعقاب الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة إلا وستستخدمه.

حجم الخسائر البشرية الفلسطينية من انتقام العدوان الإسرائيلي الذي بدأ فعلًا بضرب الأبراج السكنية للمدنيين العزّل في غزة سيدفع المقاومة للرد، وهكذا في دائرة ستظل مغلقة ومستعصية على الوسطاء العرب والأتراك والدوليين لفترة ليست بالقليلة. 

ستستمر الحرب متصلة أو متقطعة حتى تحصل "حماس" على أغلى ثمن وأعلى مقابل

أما إذا أقدمت إسرائيل على خيار "شمشون" الأحمق بشنّ حرب برية شاملة لإعادة احتلال غزة التي انسحبت منها بشكل أحادي عام ٢٠٠٥ بسبب عدم قدرتها على تحمّل استنزاف العمليات الفدائية الفلسطينية، فنحن أمام حرب أطول بكثير لسببين رئيسيين:

السبب الأول: فلسطيني يتعلق بقدرات المقاومة من "كتائب القسام" و"سرايا القدس"، فكما أفصحت عملية "طوفان الأقصى" لا يمكن مقارنة قدرات المقاومة بوضعها البدائي قبل ١٧ عامًا، ما يرشح لتحوّل غزة إلى جحيم استنزاف يومي لا يستطيع أي جيش نظامي في العالم التغلّب عليه، فما بالك بالجيش الإسرائيلي المستنزف في الضفة الغربية، والمستنزف عصبيًا وتعبويًا ويقف متأهبًا على أطراف قدميه طوال الـ٢٤ ساعة في الجبهة الشمالية في مواجهة "حزب الله".

سوف تستمر المعارك طويلًا حتى يحصل الإسرائيليون - بمقتضى التقاليد الدينية اليهودية - على جثث قتلاهم في عملية "طوفان الأقصى" ويحصلون على أسراهم وهو العدد الأكبر منذ أسرى جبهة سيناء في حرب ١٩٧٣. ستستمر الحرب متصلة أو متقطعة أيضًا حتى تحصل "حماس" المفاوضة الصبورة والعنيدة - رغم الضغوط العربية المعتادة - على أغلى ثمن وأعلى مقابل سياسي ومعنوي كبير، قبل أن توافق على تسليم إسرائيل هذا الكنز غير المسبوق من الجثث أو الأسرى الأحياء، بالإفراج عن مئات بل آلاف الأسرى الفلسطينيين ورفع الحصار الاقتصادي الظالم على غزة رفعًا منهجيًا وليس مؤقتًا كما كان يحدث بعد كل مواجهة في الحروب العديدة والمتكررة على القطاع منذ ٢٠٠٨-٢٠٠٩.

والتواصل المتوقع في المعارك سيقود إليه أيضا كبرياء إسرائيل المجروحة، فحتى إذا نجحت المفاوضات حول الأسرى وتمّ التبادل فإنّ تل أبيب ستسعى إلى منع "حماس" من الحصول على انتصار سياسي ومعنوي يذلّها، ولهذا ستتوجه لقتل رموز الأسرى المفرج عنهم وستستمر بالتالي الردود الفلسطينية.

كذلك لن تتورع اسرائيل عن السعي لقتل رموز كالقائد السياسي يحيي السنوار والقائد العسكري محمد الضيف أو رموز سياسية لـ"حماس" في الخارج، كما فعلت من قبل مع فتحي الشقاقي وعماد مغنية.. إلخ.

فلسطينيًا، قد تتكرر أيضًا وحدة الساحات الفلسطينية كما حدث في معركة "سيف القدس" عام ٢٠٢١ والتي انضمت فيها القدس والضفة الغربية ومناطق ما وراء الخط الأخضر المحتلة منذ ١٩٤٨، فيطيل هذا التطور في حال حدوثه زمن الحرب.

هذه العملية قلبت الطاولة وبعثرت معظم أوراق اللعبة القديمة

السبب الثاني: هو سبب عربي يتجاوز الساحة الفلسطينية ويعود إلى حقيقة أنّ التنسيق الاستراتيجي العملياتي بين "حماس" و"الجهاد" من ناحية و"حزب الله" من ناحية أخرى أكبر بكثير مما يعتقد الكثيرون، فإذا دخلت إسرائيل في غزة بحرب برية فإنه سيكون من المرجح في ظلّ شعار وحدة الساحات المرفوع أن ينضمّ "حزب الله" إلى المعركة ويتم فتح جبهتين كبيرتين على إسرائيل مع قوتين (فلسطينية ولبنانية) يمتلكان قوة صاروخية وقوة مسيّرات ووسائل دفاع جوي وقوات نخبة لا تقلّ إن لم تزد على قوات النخبة في الجيش الإسرائيلي.

● في المدى القصير لا بدّ من أن يصل تقدير الموقف أيضًا إلى استنتاج حالة واحدة، هي وجود توتر إقليمي قد يستمر أسابيع وربما شهورًا سيسري في أوصال منطقة الشرق الأوسط، فهذه العملية قلبت الطاولة وبعثرت معظم أوراق اللعبة القديمة، ليس فقط على مستوى التكتيكات العسكرية التقليدية التي دمّرتها عملية "طوفان الأقصى" ولكن، وهذا هو الأهم، التكتيكات السياسية، وفي حالة توتر كهذا سيكون من الصعب تمامًا حدوث أي تحرك لقطار التطبيع العربي الإسلامي مع إسرائيل، ليس فقط لمحطات جديدة كمحطة الرياض بل حتى التحرّك لمحطات قديمة كمحطة الرباط والمنامة وأبو ظبي.

تجميد سيبطئ هذه التحركات أو يوقفها لفترة من الزمن هو المتوقع، في ظلّ الغليان الشعبي العربي الذي سيجعل من المستحيل تمامًا على أي حكومة عربية أن تغامر باستقرار نظامها من أجل عيون الرئيس بايدن، ومنحه بوليصة تأمين للفوز في انتخابات الرئاسة الأمريكية القادمة، بزعم أنه أنجز سلامًا كاذبًا آخر في الشرق الأوسط كما فعل أسلافه كارتر عام ١٩٧٨ باتفاقيات "كامب ديفيد" وكلينتون في ١٩٩٣ و١٩٩٤ باتفاقيتي "أوسلو" و"وادي عربة" وترامب في ٢٠٢٠ بالاتفاقيات الابراهيمية.

أما عن الآثار المتوسطة وطويلة المدى التي ستترتب على عملية "طوفان الأقصى" فستكون محور مقالنا القادم.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن