رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح قام بإصدار القوانين وإبلاغها إلى مفوضية الانتخابات، ومبعوث الأمم المتحدة عبدالله باتيلي، الذي فوجئ بها، سيّما وأنه يعتبر أنّ من مهامه الأصيلة الاطلاع على التعديلات قبل إقرارها ونشرها. في حين أنّ عقيلة صالح الذي طالب الأمم المتحدة بقبول قانون الانتخابات الذي تمّ إقراره، أكد بأنّه "لا أحد يملك السلطة، أو يفرض على الليبيين تشكيل القوانين.. وعلى الليبيين تشكيل حكومة واحدة تُشرف على الانتخابات".
أغلب الظنّ أنّ الحماية السياسية والأمنية، التي وفّرها حفتر لعقيلة صالح، بعدما أهدر "أهالي درنة" دمه السياسي ووصفوه بـ"عدو الله"، فضلًا عن أنّ القاهرة تعتبر "ليبيا جزءًا مركزيًا في أساسيات الأمن القومي المصري"، وتعتبر "المنطقة الشرقية عمقًا استراتيجيًا لها"، ولهذا تجحفلت فيها عقب إعصار دانيال، ولعبت دورًا دفع حليفها رئيس البرلمان لإصدار القانون الإنتخابي الذي كان محلّ ارتياح حفتر وامتداح القذّافي.
كارثة درنة ظهّرت حجم الصراع الخارجي وخصوصًا بين الولايات المتحدة وروسيا
الفرق بين التعديلات القديمة التي يريدها مجلس الدولة، والتعديلات الجديدة التي انقلب عليها مجلس الدولة، أنّ الأولى تمنع المُشير خليفة حفتر، وسيف الإسلام القذّافي من خوض الانتخابات، فيما تسمح الثانية لهما بخوضها. ما يعني أنّه وفق الأولى، سيتم الإتيان برئيس تعيّنه الولايات المتحدة. ووفق الثانية، سيكون الرئيس حكمًا إمّا القذّافي أو حفتر، أي رئيس أقرب إلى روسيا. ولهذه الأسباب حصرًا ضغطت واشنطن والمجتمع الدولي لتأجيل انتخابات 2021.
كارثة درنة إذن، ظهّرت حجم الاستقطاب الداخلي، بين متنفذي شرقي وغربي ليبيا من جهة، وظهّرت حجم الصراع الخارجي وخصوصًا بين الولايات المتحدة وروسيا من جهة أخرى.
لكن "القشّة التي قصمت ظهر البعير"، هي زيارة حفتر لموسكو، ولقاؤه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الدفاع سيرغي كوجوغيتوفيتش شويغو ونائبه يونس يفكيروف، ما أغضب وأغاظ الولايات المتحدة التي عاجلت حفتر بتحذير شديد من الاعتماد على بوتين. ويبدو أنّ هذه الزيارة قد أخرجت حفتر من هوامش علاقاته الرمادية بين واشنطن وموسكو، ودفعته مع حسابات كثيرة إلى الاعتماد على بوتين.
ولعلّ المتتبّع للاستجابة الخارجية لكارثة درنة، يكتشف أنّ يفكيروف سبق الأمريكيين في الوصول إلى بنغازي ودرنة رفقة جسر جوي للإغاثة ومستشفى ميداني مع تعهّد بالدعم والإعمار، وأيضًا بتوجيه دعوة الكرملين لحفتر الذي سبق والتقى بوتين وشويغو، لكنّه لم يلتقِ برئيس "فاغنر" الجديد أندريه تروشيف.
ما إن غادر يفكيروف بنغازي، حتى وصلها قائد "أفريكوم" الجنرال مايكل لانجلي والمبعوث الأمريكي الخاص ريتشارد نورلاند. ظاهر زيارة الأمريكيين المُعلن، تقديم الدعم لمتضرري كارثة درنة والجبل الأخضر ومبلغ 12 مليون دولار. أمّا باطنها، فبحث سبل التعاون مع حفتر في مكافحة الإرهاب وطرد المرتزقة من ليبيا، والمقصود هنا حصرًا مرتزقة روسيا.
ردود الفعل الأمريكية الغاضبة، تجاوزت التحذير لحفتر. وبحسب السفير الأمريكي السابق في ليبيا جوناثان وينر "هناك حديث حالي عن مطالبة حفتر لمجلس النواب الليبي، ورئيسه عقيلة صالح، بالموافقة بسرعة على (اتفاقية دفاع ليبية روسية مشتركة)، وأيّ اتفاق من هذا القبيل من شأنه أن يمثّل تحديًا مباشرًا للمصالح الأمنية الوطنية والإقليمية والعالمية الأساسية للولايات المتحدة"، وأكد وينر، "يمكن لواشنطن أن تفرض عقوبات على حفتر بموجب العقوبات الأمريكية الثلاثة الرئيسية: روسيا - أوكرانيا، وقانون ماغنيتسكي، وانتهاكات الأسلحة.. واختلاس أصول الدولة، والهجمات ضد الموانئ الليبية، واستهداف المدنيين بأعمال العنف، وكلّها يمكن تطبيقها بسهولة على تصرفات حفتر"، الذي وللمفارقة، بدأت ترتفع بوجهه أصوات اعتراض لشخصيات قبلية وسياسية رغم القبضة الأمنية التي يفرضها شرقي ليبيا وخصوصًا في بنغازي.
وبالكلام الأمريكي عن اتفاق روسي ليبي حول إقامة قواعد عسكرية، فليس سرًّا أنّ القوات الروسية (فاغنر سابقًا) موجودة في أبرز وأهم القواعد الليبية، من "تمنهنت" جنوبي ليبيا، إلى "القرضابية" في سرت بوسط ليبيا، إلى "الخروبة" و"مرتوبة" شرقي ليبيا. لكنّ هذا التواجد الروسي لم يرتقِ لمستوى الاتفاقات الاستراتيجية التي تتخوّف منها أوروبا قبل الولايات المتحدة. فأساطيل روسيا في سوريا تعني محاصرة أوروبا من غربها، ووجود هذه الأساطيل في ليبيا يعني محاصرة أوروبا من جنوبها.
يفكيروف سيكون "بريغوجين روسيا الجديد" في المنطقة
بعد زيارة حفتر لموسكو، أثار بوتين الجدل وربّما للمرة الأخيرة، حول يفغيني بريغوجين زعيم "فاغنر" المقتول بانفجار طائرته قرب موسكو نهاية آب الماضي. فقد أكد بوتين أنّه "تمّ العثور على قطع من قنبلة يدوية في جثث ضحايا الكارثة الجوية، ولم يوجد أثر خارجي في الطائرة" بحسب التقرير الذي تسلّمه من رئيس لجنة التحقيق قبل بضعة أيام.
تظهير بوتين لنتيجة التحقيق بمقتل بريغوجين المتزامن مع لقاء يفكيروف بحفتر في بنغازي، يبدو مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالنفوذ الروسي في ليبيا بوصفها منصّة روسيا الإستراتيجية باتجاه أوروبا وأفريقيا ودول الساحل خاصة، سيّما وأنّ لشعوب هذه المنطقة حساسية كبيرة من مرتزقة "فاغنر"، وقبلها من مرتزقة "الفيلق الفرنسي" في أفريقيا.
منبع هذه الحساسية، صفة "المرتزقة" التي تُوصم بها "فاغنر" ما سهّل التصويب على موسكو. ورغم المكاسب الاستراتيجية التي حققتها "فاغنر"، فقد أضرّ بعض أدوارها في غير بلد بسمعة روسيا، ولهذا عمد بوتين لإعادة هيكلتها وتنظيمها. ويبدو أنّ بوتين الذي جعل العالم ينسى وبسرعة مقتل بريغوجين، قرّر تثبيت نفوذه في ليبيا، ومنازلة الأمريكيين الذين سخر منهم سفيره في طرابلس. وأنّ يفكيروف الذي لم تطله انتقادات بريغوجين، سيكون من موقعه كنائب لوزير الدفاع الروسي، "بريغوجين روسيا الجديد" في المنطقة، من سوريا إلى ليبيا فدواخل أفريقيا، مع ما يعنيه ذلك من إضفاء صفة الرسمية على الدور الروسي في المنطقة، بعيدًا عن صفة المرتزقة التي وُصمت بها "فاغنر".
توازيًا مع الكلام الأمريكي عن إتفاقية روسية ليبية بشأن القواعد وأنظمة الدفاع الجوي والتدريب والتسليح المتطوّر.. برز كلام تواصلي ليبي، عن تحضيرات أمريكية مكثّفة للعودة إلى قاعدة "معيتيقة" في طرابلس، والتي انطلقت الطائرات الأمريكية منها لقصف مصر خلال العدوان الثلاثي، وكانت زمنذاك تسمّى "قاعدة ويلس"، وتتمركز فيها حاليًا القوات التركية التي ستخليها للأمريكيين. ويتردّد أنّ القوات التركية ستتمركز في ميناء "الخُمس"، وقد سبق الإعلان عن "مقاومة الخُمس" ضد "الإحتلال التركي".
وعزّز مناخ الكلام عن عودة القوات الأمريكية إلى قاعدة "معيتيقة" ("ويلس" سابقًا)، والتي طردت منها عام 1970، قرار مفاجئ من المدعي العام العسكري الليبي، يطلب فيه من سكان محيط القاعدة وهم من "العسكريين الليبيين المتقاعدين" سرعة إخلاء منازلهم "لإخلالهم ببنود عقود الإيجار".
ما تقدّم يشي بخلط أوراق داخل الساحة الليبية، تمامًا كما يشي بأنّ المسرح الجيواستراتيجي يتهيّأ لحرب شبيهة ببعض فصول الحرب العالمية الثانية التي جرت وقائعها بمنطقة "طبرق" شرقي ليبيا عام 1948، أو تلك التي سبقتها بين العثمانيين والليبيين ضد الاحتلال الإيطالي عام 1911. وفيما انتهت الأولى، بهزيمة رومل الألماني من قبل الانكليز، انتهت الثانية، بانتصار الليبيين والعثمانيين على الإيطاليين الذين عادوا وتسلّموا ليبيا من العثمانيين وأحكموا احتلالهم لها.
"طوفان الأقصى" أكد أنّ التطبيع لن يخمد نار فلسطين ولن يطفئ ثأرها
استدعاء تاريخ هاتين الحربين العالميتين، تجحيظ للموقع الجيواستراتيجي الذي يتصارع فيه وعليه رسّامو خرائط الهيمنة، ومهندسو تضاريس النفوذ الدوليين على شمال أفريقيا وغربها، إنطلاقًا من ليبيا التي فضلًا عن ثرواتها ومواردها الطاقوية والمنجمية، بات علينا أن نفهم دوافع وأبعاد تدمير "الناتو" لها عام 2011، ودوافع وأبعاد إعلان بوتين المتكرّر "لقد تعلّمنا من درس ليبيا".
بين دوافع الطرفين، وبين إنهاء الإنقسام الليبي وإعادة تكوين السلطة عبر الانتخابات مجهولة المصير، يرجّح أنّ التاريخ سيعيد نفسه، لتكون ليبيا أحد ميادين الحرب العالمية المقبلة إذا ما اندلعت، والتي تطلّ علينا نذرها من أوكرانيا إلى البلقان وتركيا وسوريا والعراق وإيران، ومن السودان ودول الساحل إلى مصر وسدّ النهضة، وجوار البحر الأحمر الآسيوي والأفريقي.
وتبقى فلسطين الملحمة الملهمة التي ربما أكل "التطبيع" بعض وهجها، لكن "طوفان الأقصى" أكد أنه لن يخمد نارها، ولن يطفئ ثأرها... فجوع الفلسطينيين الحقيقي هو لحرّيتها، وليس للقمة الخبز.