بينما يتطلع المصريون إلى انتخابات رئاسية عادلة هادئة، تعكس المزاج المصري الرافض لنداءات التعصب والإثارة، يترقب العالم ما عساها أن تسفر عنه تلك الانتخابات من ترتيبات مؤثرة على الاقتصاد المصري المأزوم، وعلى مختلف الملفات الإقليمية التي تلعب مصر دورا فاعلا فيها.
وإذ تنعدم فرص تحقق أي مفاجآت في نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة، خاصة بعدما أعلن الرئيس السيسي عزمه الترشح لولاية جديدة، فإن مناط الترقب المشار إليه ليس في شخص الرئيس القادم، بل في طبيعة البرنامج الانتخابي الذي يتبناه الرئيس، ويلزم به الحكومات المكلفة طوال فترة الرئاسة القادمة، والتي هي أكثر الفترات دقة وحساسية منذ العام 2014 لأكثر من سبب: من ناحية، تعد فترة الولاية القادمة الفترة الأخيرة للرئيس السيسي وفقا للدستور، وعادة ما تشهد فترات الولاية الأخيرة لمختلف رؤساء العالم تحولات مهمة ودقيقة، واهتماما بنوع معين من الملفات التي تعكس أولويات الحزب الذي ينتمى إليه الرئيس، وفي الحالة المصرية، فإن الرئيس لا ينتمي إلى حزب سياسي، وإن كان مدعوما بالعديد من تلك الأحزاب، لذا فمن المتوقع أن تتقاطع أولويات مؤسسة الرئاسة مع أولويات المؤسسة العسكرية التي انتمى إليها الرئيس قبل انتخابه في عام 2014. ولأن المؤسسة العسكرية هي مؤسسة الوطنية الراسخة، فليس أقل من أن تحتل قضايا الأمن والاستقرار القومي بكل أبعادها السياسية والأمنية والاقتصادية نصيب الأسد من فترة الولاية المقبلة.
قد لفت انتباهي في تعقيبات الرئيس السيسي في مؤتمر «حكاية وطن» حرصه على استدامة المسار التنموي الذي عانت مصر من مقاطعته عبر مختلف العصور، وتقديري أن تجاربنا التنموية التاريخية لم يكتب لها أن تكتمل كونها لا ترتبط بالشعوب ولا حتى بالمؤسسات، بل هي تجارب أشخاص، وفي أحسن الأحوال هي تجارب أسر حاكمة، كما الحال مع الأسرة العلوية وتجربتها الأطول عمرا والأكثر اكتمالا، لعدم حرص حكام أسرة محمد علي على محو ما قام به الأب المؤسس ولا ورثته المتعاقبين، وإن كان حرصهم واضحا على تهميش الشعب.
ومن أبرز علامات ذلك الحرص على استدامة المسار التنموي، ما أكد عليه الرئيس من ضرورة عدم ربط التجربة بالفرد، وأن الاستقرار متى تحقق وقواعد الانطلاق تم تثبيتها بصورة مرضية فإن «أي شخص» يمكنه أن يجلس على كرسي الحكم. تلك العبارة التى كررها الرئيس السيسي لم تصدر عبثا، بل هي إشارة واضحة إلى ضرورة الانتقال من دولة الأفراد إلى دولة المؤسسات. لكن حتى يكتب لدولة المؤسسات أن تنمو وتزدهر وتستدام، فلا بد من أن تكون تلك المؤسسات منتجا شعبيا قائما على دعائم الديمقراطية، حتى تصبح التجربة التنموية ملكا للشعب، وحتى يصبح على كل مواطن واجب حماية تلك التجربة التي لم تفرض عليه ولم تهبط عليه من السماء.
أولى تلك المؤسسات هي مؤسسة الرئاسة التي هي على موعد مع الانتخابات الرئاسية، والتي يجب أن تتحقق فيها المشاركة الشعبية الواسعة حتى تكون معبرة عن الجمعية العمومية لمصر، وأن يتمتع تمثيلها للشعب المصري بشرعية الاقتناء، وأعني هنا اقتناء الشعب لمؤسساته، ومن ثم قيامه بحمايتها والذود عنها بكل السبل.
ولأن نظام الحكم في مصر ليس برلمانيا بل هو نظام شبه رئاسي، فإن الاهتمام برأس مؤسسة الرئاسة مقدم شعبيا وعالميا على الاهتمام بالبرلمان بغرفتيه، أو بمؤسسة القضاء التي يجب أن تظل مستقلة بعيدة عن الحكم. وعليه فإن الولاية المقبلة يجب أن تقطع شوطا حاسما في تهيئة المناخ العام للتعددية والتداول السلس والآمن للسلطة، بعيدا عن التخوين والتأليه والتشويه والصخب والتعدي.. وغير ذلك من مفردات أكد الرئيس السيسي فى المؤتمر المشار إليه أنه لا يسيغها ولو كانت تصدر بنية دعمه أو الرد على المسيئين إليه.
أما عن السبب الآخر للاهتمام الكبير بتلك الفترة الرئاسية على وجه الخصوص، فهو انطلاقها من نقطة زمنية يعبرها الاقتصاد المصري بين أمواج متلاطمة من التحديات الداخلية والخارجية على الصعيدين الاقتصادي والأمني. ولأن مختلف التحديات يمكن اختزالها في ملفات الأمن الاقتصادي (الغذائي والمائي والوظيفي..) فسوف ألقي الضوء على أبرز التحديات الاقتصادية التي تنتظر الرئيس القادم.
فرئيس مصر المقبل عليه أن يتعامل منذ اللحظة الأولى لانتخابه مع أزمة تفاقم الديون التي تعاني منها مصر وكثير من الدول النامية منذ أن بدأ عصر الأموال الرخيصة في الاختفاء، وراء تلال من قرارات رفع أسعار الفائدة من البنوك المركزية، في محاولة من تلك البنوك للسيطرة على موجات التضخم الشرسة التي أطلقتها الجائحة وحرب أوروبا من عقالها. وقد تجاوز الدين المحلي لمصر 4 تريليونات جنيه، وتجاوز دينها الخارجي 165 مليار دولار، وتغل خدمة الديون من أيادي الحكومات المتعاقبة، إذ تلتهم أكثر من ثلث موازنة الدولة، وتهدر الكثير من احتياطي النقد الأجنبي الذي تعمل البلاد على تراكمه لسد العجز الخارجي (في ميزان المدفوعات وتحديدا ميزان المعاملات الجارية) وهو ثاني التحديات المزمنة والمتفاقمة التي يتعين على الرئيس المقبل مواجهتها.
كذلك يواجه الرئيس المقبل معدلات تضخم سنوية تدور حول 40%. وهي معدلات مرتفعة تلتهم جانبا كبيرا من الدخل الحقيقي للمواطن، وتفرض عليه قيدا لا يمكن التعايش معه لفترات طويلة. تلك المعدلات مرشحة لمزيد من الارتفاع حال اتجاه مصر إلى تحريك سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار الأمريكي (للمرة الرابعة خلال عامين) تحت ضغط شح الدولار، واتساع الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق الموازية للدولار في مصر. الأمر الذي ينقلنا إلى تحدي الضغوط الدولية، في سياق الشح الدولاري وعودة السوق السوداء للعملة الصعبة. وتلك الضغوط تتمثل في انخفاض تدفقات رؤوس الأموال من الخارج عن المستوى الذي يمكنه أن يعوض انخفاض الادخار المحلي من ناحية، ويزيد من تدفقات النقد الأجنبي من ناحية أخرى، ولو في صورة أموال ساخنة (في الأجل القصير). كذلك تأخذ تلك الضغوط صورة تخفيض منتظم في التصنيف الائتماني للديون المصرية، بما يرفع من تكلفة الاستدانة، ويضيف أعباء جديدة على المالية العامة. بل إن تخفيض التوقعات للنمو الاقتصادي المصري بات أيضا خبرا شبه متكرر في إصدارات مؤسسات تمويل كبرى، مثل البنك الدولي الذي خفض منذ أيام توقعاته للنمو في 2024 من 4% إلى 3,7%، وهذا هو التخفيض الثاني خلال فترة قصيرة، حيث كانت توقعات النمو السابقة للعامين الماليين 2022/2023 و2023/2024 هي 4,5% و4,8% على التوالي وفقا للبنك الدولي، الذي قام بتخفيضها إلى 4% للعامين.
كذلك يأتي تأخر حسم الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على القرض الأخير، الذي يتوقع أن يأتي بثلاثة مليارات دولار من الصندوق و14 مليارا من دول الجوار، ضمن أوراق الضغط التي تستند إليها قرارات الاستثمار الأجنبي، وتوقعات مؤسسات التصنيف الائتماني. ولما كانت مراجعتا خبراء الصندوق للملف المصري لشهري مارس وسبتمبر الماضيين لم ينجزا في الموعد المضروب لهما، فإن الكثير من التساؤلات تثار حول مدى اقتناع الصندوق بمستوى مرونة سعر الصرف في مصر، ومدى نجاح برنامج تخارج الدولة من بعض الأصول التي تزاحم بملكيتها القطاع الخاص، وهذا الأخير تحقق فيه نجاح نسبي، شاهده التزام الدولة ببيع ما قيمته 1,9 مليار دولار من الأسهم قبل نهاية يونيو الماضي.
الرئيس المقبل عليه أن يستكمل المشروعات القومية التي بدأت وانتصف العمل بها، وبات من العبث الرجوع عنها، ومن المجهد للمالية العامة تمويلها في ظل ظروف نقص العملة الصعبة. عليه أن يحدد الأولويات بدقة شديدة، وأن يتحرك في ظل ما هو متاح من موارد، ولو على حساب تأخير بعض الطموحات والأحلام. عليه أن يتابع الحفاظ على معدلات التشغيل المتميزة التي تتمتع بها مصر اليوم، والتي نزلت بمعدلات البطالة من مستويات تزيد على 13% قبل عشرة أعوام إلى نحو 7% اليوم.
الرئيس المقبل عليه عبء اقتصادي كبير، ومحاط بأزمات وتحديات تغير المناخ، والحرب الروسية ــ الأوكرانية، وسياسات التشديد النقدي، وأزمات انعدام مرونة جانب العرض، والحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وتراجع النمو في الأخيرة، واضطراب سلاسل الإمداد عالميا، والاستقطاب الإقليمي والأممي الكبير.. عليه استثمار تجمع «بريكس» وغيره من كيانات إقليمية لتشكيل رؤية مشتركة لدول الجنوب، والتخلص من أزمات الديون بصيغة تفاهمية أممية، لا يترتب عليها مزيد من الأعباء أو التهديد بالتعثر.. عليه أن يستمر في محاربة الإرهاب والتخلف والانفجار السكاني.. والعديد من التحديات التي تناولناها في مقالات عدة، وسوف نتناولها بالتحليل وتصور الحلول في مقالات مقبلة بإذن الله.
("الشروق") المصرية