الصحيفة اليساريّة المعترِفة بالحقّ الفلسطيني بشكلٍ ما، باتت عبئًا على الحكومة الإسرائيلية لأنّ ناشرَها تجاوز مرحلة التعاطف مع المأساة الإنسانيّة التي عاشها ويعيشها الشعب الفلسطيني إلى التجرُّؤ على وصف المقاومين الفلسطينيّين بأنهم "مقاتلون من أجل الحرّية". حتى في ظلّ الاتفاق داخل إسرائيل على أنّ أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول بالنسبة إليهم كانت "إرهابية"، قال شوكين إنّ "العديد من مقاتلي الحرّية في العالم، وعلى مرّ التاريخ، ارتكبوا أيضًا أعمال إرهاب مروّعة".
ممارسات إسرائيل هي أهمّ أسباب شعور الإسرائيليّين بافتقاد الأمن والتشكّك في البقاء
ما قاله عاموس شوكين وفتح عليه النيران الإسرائيليّة ليس إلّا بديهيّة تاريخيّة، فلم يبتعدْ العنف عن أي سياسة لمقاومة الاحتلال في أي مكان في العالم. لم ينتزع جورج واشنطن ورفاقه الاستقلال الأميركي من دون عمليّات عسكريّة، ولم ينخرط شارل ديغول في حوار سياسي مع النازي الألماني ليحرّر باريس المحتلّة ويستعيد للشعب الفرنسي كرامته، ولم يعتمد نيلسون مانديلا فقط على الحلول السياسيّة، بل قضى نصف حياته في كفاحٍ مسلحٍ ضد نظام الفصل العنصري البغيض، ولم يحكم التاريخ حتّى في المدوّنات الفرنسيّة على أبطال التحرّر الجزائري بوصمهم بالإرهاب، على الرّغم من اعترافه بما كبّدوه للجيش الفرنسي والمستوطنين الفرنسيّين من خسائر كبرى.
تحاول إسرائيل وداعموها إحالة الأزمة إلى عنف المقاومة، وكأنّ الاحتلال في تعريفه وممارساته العنصريّة ليس أعلى مراتب العنف والقهر والتسلّط، وحين يقال لهم إنّ العنف ردّ لفعلٍ اسمه الاحتلال وليس فعلًا مقصودًا بعينه، يذهب هؤلاء إلى كونه عنفًا عطّل العمليّة السياسيّة، الثّابت أنّها متعطّلة منذ عقود في ظل مخطّطات إسرائيليّة واضحة برفض إنهاء الاحتلال ورفض حلّ الدولتَيْن ورفض الدولة الديموقراطية ثنائيّة القوميّة.
مثل هذا ما قاله ناشر صحيفة "هآرتس" في كلمته بمؤتمر الصحيفة السنوي في لندن، وانطلقت بعدها حملة لتركيع "هآرتس" عبر "إيقاف الإعلانات الحكوميّة في الصحيفة، وإلغاء جميع اشتراكات موظفي الدولة، واشتراكات الجيش، والشرطة، وإدارة السجون، والوزارات والشركات الحكوميّة، بما في ذلك الاشتراكات الشخصيّة لموظّفي الدولة".
شوكين قال بديهيةً أخرى: "إذا أردنا ضمان بقاء إسرائيل وأمنها، ومساعدة جيراننا الفلسطينيّين على العيش حياة كريمة، يجب إقامة دولةٍ فلسطينيّة، والطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك، هي من خلال فرض عقوباتٍ على إسرائيل، ضد قادتها المعارضين لهذا، وعلى المستوطنين"... ممارسات إسرائيل إذن هي أهمّ أسباب شعور الإسرائيليّين بافتقاد الأمن والتشكّك في البقاء، و"روشتة" الأمن والبقاء واضحة تمامًا، كما وصفها عاموس شوكين.
من يراهنون على إسرائيل في اليوم التالي لنهاية الحرب على غزّة، عليهم أن ينظروا جيدًا لحديث عاموس شوكين، وما تواجه به هذه الحكومة صحيفة تقول البديهيّات الإنسانيّة التي من المفترض أن يقولها كلّ طرف في الإقليم عن الدولة الفلسطينيّة وحقوق الشعب الفلسطيني، ربما يدرك هؤلاء أنّ رهانهم خائب وربما سيخيب أكثر مع وجود دونالد ترامب في البيت الأبيض، لأنّ الحقيقة الواضحة أنّ إسرائيل هي المشكلة في الشرق الأوسط وليس "حماس" ولا "حزب الله" ولا الشعوب العربيّة المشحونة بالغضب والرّفض للتطبيع والمحبوس غضبها في داخلها، فلو التزمت إسرائيل بالحدّ الأدنى من الحقوق الفلسطينيّة في الدّولة المستقلّة والعيش بكرامة، لكان ذلك كفيلًا بإفشال أي مشروع يستخدم الحقّ الفلسطيني ويرفع رايته، ويحرمه من المشروعيّة الأخلاقيّة، لكن العكس ما يحدث حيث تمنح إسرائيل كل يوم لهذه المشاريع ما يقوّيها أخلاقيًا ويعزّز وجودها عاطفيًّا، ويبرّر ممارساتها أيًّا كانت طالما أنّ احتلالًا قائم وقضيّةً عادلة ما زالت محبوسةً خلف قضبان السجّان الإسرائيلي.
إسرائيل هي الخطر المركزي الذي يبني لأي أخطار أو تهديدات أخرى مشروعيّتها
ما زال البعض في المنطقة العربيّة تحديدًا يبني سياساته على كون إسرائيل هي الخطر الهامشي مقارنةً بأخطارٍ وتهديداتٍ أخرى، لكن الحقيقة أنّها الخطر المركزي الذي يبني لأي أخطار أو تهديدات أخرى مشروعيّتها، وإذا انتهت الجرائم الإسرائيليّة ستفقد أي تهديدات أخرى يراها البعض نصف قوّتها وأهميتها. لكن تحت هذا الارتكان العربي من بعض الأطراف والجماعات بأنّ هناك أخطارًا أهم من الخطر الإسرائيلي، يبدو التضامن مع غزة في ظلّ هذه الجريمة الإنسانيّة غير المسبوقة حذِرًا ومُستحيًّا ومنحصِرًا في الجوانب الإنسانيّة، ومبتعدًا عن أي فعل فيه قدر من الخشونة السياسيّة في مواجهة إسرائيل، بل ويسير خلف المفردات والتعريفات والتوصيفات الإسرائيليّة للصراع وأطرافه.
ما فعله عاموس شوكين، أنه رفض تجريد الفلسطينيّين من إنسانيّتهم لشرعنة ما يلحق بهم من إبادة أو تبرير التنكيل بهم، ووجّه للداخل الإسرائيلي الرسائل المستحقّة التي كان يجب أن يسمعها الإسرائيلي وحلفاؤه في العلن والغرف المغلقة على السواء.
المقاومة حتميّة طالما هناك احتلال... والمقاومون مقاتلون من أجل الحرّية طالما ظلّت بعيدة... وإسرائيل هي مشكلة الإسرائيليّين قبل العرب.
(خاص "عروبة 22")