لعلّ ما يُلاحظ في مختلف المحاولات الإصلاحية اشتراكها في طبيعة الدافع القادح لإثارتها الذي غالبًا ما يقترن بتأزّم اجتماعي وسياسي لم يعد من الممكن فيه التغاضي عن محاولة معالجة الأزمة والبحث عن حلول لها.
لئن باشرت تونس زمن الرئيس الحبيب بورقيبة (1957-1987) مشروع توحيد التعليم بمقتضى قانون 4 نوفمبر 1958، فإنّه سرعان ما تبيّن هشاشة ذلك المشروع ونوعية خلفياته المسكوت عنها بعد مضي عقد من الزمن، بحكم أنّ صاحب ذلك المشروع لم يكن في حقيقته إلاّ المتفقّد الفرنسي جان دوبياس [Jean Debiesse] الذي كان يُخطّط في تقريره الأصلي إلى تكوين أجيال من التونسيين القادرين على العمل بفرنسا.
وبقدر ما سعت السلطة وقتها إلى تعديل مسارها وطرح مشروع جديد نواته التعريب لا سيما في ظلّ تفاقم الحركة الطالبية الاحتجاجية المعروفة بحركة آفاق ذات التوجّهات التقدّمية، فإنّ طابعه الارتجالي عمّق الأزمة وعمّمها. وهو ما مهّد لتدخّل المموّلين الدوليين في الشأن التربوي التونسي مع منتصف ثمانينات القرن العشرين، عبر صندوق النقد الدولي أساسًا في إطار مخطّط تنموي شامل باشرته تونس وقتها.
"الكتاب الأبيض" تجنّب معالجة القضايا الجوهرية والأسئلة الكبرى
ولمّا كان العامل السياسي عنصرًا مهيمنًا على تفكير صانعي القرار التونسي، فإنّه تمّت العودة، ضمن قانون إصلاح التعليم سنة 1991 ثم ضمن إصلاح ما عُرف بـ"مدرسة الغد" سنة 2005، إلى إحياء مشروع دوبياس وتطويره للتصدّي لمظاهر التطرّف والغلو والإرهاب ومحاصرة ظاهرة "الإسلام السياسي" أو "الإسلام الحركي"، إلاّ أنّه بقدر ما تحسّنت المؤشّرات الكمية في مستوى نسبة المتحصّلين على شهادة الباكالوريا وخريجي الجامعات التونسية، فإنّ الأوضاع وصلت إلى طريق مسدود بفعل تضاعف أعداد المتخرّجين العاطلين عن العمل، وما وفّره "العصر الرقمي" من إمكانيات كبرى للتعبير عن الاحتجاج والرفض والتمرّد. لذا لم يكن الانفجار الاجتماعي الذي حدث بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين مفاجئًا أو مباغتًا.
وإذا كانت تجربة الانتقال الديمقراطي قد مكّنت مختلف تشكيلات المجتمع المدني من تقديم تصوّراتها الخاصّة بإصلاح المنظومة التربوية، فإنّ صدور "الكتاب الأبيض" لإصلاح المنظومة التربوية سنة 2016 بدا محاولة تأليفية بين مختلف تلك المقترحات، رغم أنّه لم يكن في حقيقته إلا مسايرةً للوضع العام. كما تجنّب معالجة القضايا الجوهرية والأسئلة الكبرى المتولّدة عنها مثل حقيقة الرؤية التربوية المعتمدة في الإصلاح، ومدى إمكانية استمرار معادلة تلازم الشهادة الجامعية/المدرسية مع الحصول على وظيفة في سوق الشغل، وحدود قدرة الدولة على النهوض بأعباء العملية التربوية، ومدى إمكانية الحديث عن استقلالية التعليم، وأهمية التعليم التشاركي.
لم يكن من هذا المنطلق استئناف الجدل حول الإصلاح التربوي في ظلّ دستور 25 تموز 2021 مباغتًا. فالاستشارة الإلكترونية التي تمّ تنزيلها مؤخرًا وتستمرّ إلى نهاية 2023 لا تتعارض من حيث المبدأ مع الرؤية التشاركية والمنهج التشاركي المعتمدين في أرقى الدول الديمقراطية، حيث طرحت على بساط النقاش وإبداء الرأي خمسة محاور كبرى ممثّلة أوّلًا في التربية في مرحلة الطفولة المبكّرة والإحاطة بالأسرة؛ برامج التدريس ونظام التقويم والزمن المدرسي؛ التنسيق بين أنظمة التربية والتكوين المهني والتعليم العالي والتكامل بينها؛ جودة التدريس والتكنولوجيا الرقمية؛ وأخيرًا، تكافؤ الفرص والتعلّم مدى الحياة.
بيد أنّ ذلك التمشّي يُعدّ غير كافٍ، فقد أثبتت التجربة التاريخية في هذه المسألة تحوّل الإصلاح إلى "إصلاح للإصلاح" - أو "استصلاح" على حدّ تعبير أحد الباحثين - بحكم انخراط مختلف تلك التجارب إلى ترضيات وتقيّدها بإملاءات أو توصيات مسكوت عنها غالبًا لارتباطها الجدلي بالمموّلين الدوليين تحت شعار تطوير التعليم وتجويد مكتسبات المتعلّمين، فضلًا عن تأجيل الخوض في الإشكاليات الحارقة حفاظًا على الاستقرار الاجتماعي. لذا يتعيّن الحذر من "إعادة إنتاج" التوجّهات السابقة نفسها تحت مسمّيات جديدة لكي لا تتوسّع أكثر ظواهر "تسليع التعليم" والتمييز الاجتماعي والتفاوت بين الجهات.
يجب أن لا تتحوّل "استقلالية التعليم" إلى فوضى مقنّعة قد تفاقم الأزمة وتخرجها عن السيطرة
لم يعد من الممكن اليوم، في خضم التحوّلات السوسيوثقافية التي تشهدها تونس ومن أهمّها التراجع الرهيب للبنية الأساسية للمؤسّسات التربوية، حتّى في مستوى توفّر قاعات الدرس واكتظاظ الفصول المدرسية، وتدهور المستوى المعيشي للمدرّسين بمختلف أسلاكهم من التعليم الابتدائي إلى التعليم العالي، التردّد في مصارحة الشعب بعدم قدرة الدولة حاليًا على تعبئة الموارد المالية الضرورية لتحقيق التوازن المطلوب في ظلّ تراجع موارد الدولة وتحوّلها من "دولة عناية" إلى "دولة جباية" منذ ما يربو عن العقدين.
نحن إزاء تحوّل يأتي في سياق الصعوبات الاقتصادية العالمية، مما يستدعي تغيير المقاربة المعتمدة من مقاربة "دولنة التعليم" إلى مقاربة التعليم "التشاركي" الذي سبق لعالم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة التنظير له. وهذا التغيير لا يمكن أن يحدث بمعزل عن تطوير التشريعات والقوانين المنظّمة لعلاقة التربية والتعليم بالدولة والمجتمع على حدّ سواء. فإذا كان غالبًا ما يتمّ الحديث عن "استقلالية التعليم" أسوة بـ"استقلالية القضاء" على حدّ تعبير محمد عابد الجابري، فإنّ هذه الاستقلالية أو التشاركية يجب أن لا تتحوّل إلى فوضى مقنّعة قد تفاقم الأزمة وتخرجها عن السيطرة.
تونس اليوم في مفترق طريقين لا ثالث لهما.. فإمّا مباشرة عملية تصحيح ذاتي حقيقية أو الانحدار إلى هاوية سحيقة
يتعيّن في هذا المشروع الإصلاحي، الذي يمكن إدراجه ضمن باب التصحيح الذاتي، التحرّر من "العقل السلطوي" وتطوير الفلسفة التربوية المعتمدة وترقيتها ضمن معادلة جديدة تتجاوز الربط الآلي القائم بين الشهادة الجامعية والتوظيف الحكومي إلى آفاق أكثر مصداقية وفعالية وواقعية تحصر وظيفة الدراسة والتعليم أساسًا في تكوين المواطن الحقيقي المسؤول عن صلاح ذاته وتقدّم المجتمع، ومن ثمة فدور المدرسة وفق هذه الرؤية يمكن تحديده في مساعدة المتمدرسين على اكتساب قدرات وآليات مواجهة متطلّبات الحياة المتوازنة ومستجدّاتها.
بيد أنّ كلّ ذلك لا يمكن حدوثه دون استراتيجية شاملة على الأمدين المتوسّط والبعيد، نواتها مشروع وطني جامع يعيد ترتيب الأولويات ومنها علاقة التربية والتعليم برهان بناء الإنسان "الحقّاني" الذي تتساوى عنده المطالبة بالحقوق مع الالتزام بالواجبات، وعلاقة كلّ ذلك بدولة المواطنة والمؤسّسات، والتنمية بمختلف مستوياتها ومجالاتها، والشروع في تنويع الشركاء الدوليين بدل اقتصار الوجهة على النموذج الأوروبي الحداثي المقلّد.
لا جدال في أنّ تونس اليوم تعيش في مفترق طريقين لا ثالث لهما، سواء في مجال الإصلاح التربوي أو في غيره من المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فإمّا مباشرة عملية تصحيح ذاتي حقيقية تتطلّب تضحيات كبرى من الدولة أوّلًا، ثم من المجموعة الوطنية ثانيًا، أو الانحدار إلى هاوية سحيقة لا نهاية لها.
لقد علّمتنا دروس التاريخ الكثيرة قدرة الشعوب على الانتصار على آلامها والنهوض في المنعطفات التاريخية الحاسمة خاصّة في حالة تونس التي تمتلك قدرات وإمكانيات ذات بال يمكن ترشيد استخدامها وتعزيزها في نطاق التكامل المغاربي والعربي.
(خاص "عروبة 22")