لنقف، قليلًا، عند مسألة الابتعاد عن السواء. والقصد بالسواء عندنا هو ما به يستقيم تدبير الشأن العام وهو المواطن واعتبار احترام حريته وكرامته واعتباره شخصًا بالغًا راشدًا ينطق عن فكر – ومن ثم وجوب احترام إرادته الحرة، من جانب أول والتسليم بأنّ الغاية من التعاقد الاجتماعي هي إسعاد المواطن.
والتعاقد الاجتماعي ليس فعلًا يتمّ مرّة واحدة وينتهي القول فيه، فمتى كان كذلك فإنّ من اليسير جدًا على الطرف الثاني في عمل التعاقد (ذاك الدي ينقل شخصًا أو جهة لشغل مكان القيادة) أن ينحرف جهة الاستبداد والاستخفاف بمبدأ المراقبة والتطويح بعيدًا بالآليات التي انتهي إليها في الممارسة البشرية تطوير ممارسة الرقابة الشرعية. ليس "الاستحقاق الانتخابي" سوى استئناف للعقد الاجتماعي وتجديد له. والغني الذي تراكمه البشرية في ممارسة الفعل التعاقدي يقضي بأنّ للتعاقد شروطًا بها تكون صحة العقد الاجتماعي وفي غيابها يحدث الفساد فيسقط العقد تلقائيًا.
الإخلال ببنود العقد يحيل الممارسة الانتخابية إلى "لعبة" تُعرف فيها النتيجة مسبقًا
وحكم الناخب بكون المعقود له (كما يقول الفقهاء ورجال القانون معا) - أي ذاك الذي قد صار في المقدمة وأسلم اليه أمر قيادة السلطة التدبيرية العليا- يهب الناخب، الحق كاملًا، في معاقبة المعقود له والتعبير الواضح عن ذلك هو التصويت لغيره في المنافسة الانتخابية - وهذا الحكم بانحراف المعقود له عن الشروط التي أقسم بالالتزام بها يكون من جهة المضمون (فعل الناخب، عندئذ، يفيد القول للرئيس وقد ترشح للرئاسة كرة أخرى، لا لست أقبلك رئيسًا يمسك بأعنة الحكم مرة أخرى).
ومن الطبيعي أنّ الإخلال بالعقد، من جهة المضمون، أمر يقبل الاختلاف ويستدعي الجدل. لا، بل إنّ لبّ الديمقراطية وصورتها معًا يكمنان في الجدل والاختلاف. غير أنّ الشأن في الإخلال ببنود العقد من حيث صوريتها وبناؤها غير ذلك، بل إنه نقيض ذلك وهو كذلك لأنه يطوّل الجدر ويجتث الأساس من أساسه. وبالتالي فهو يحيل الممارسة الانتخابية إلى "لعبة" تُعرف فيها النتيجة مسبقًا ويغدو الاعتراض والممانعة، (وهما حقان طبيعيان يمتلكهما المواطن)، خروجًا على "الإرادة العامة" وعبثًا بالسلطة "الشرعية" التي يمتلكها الشعب فهو، في تعبير يعلو على الفعل الانتخابي، "صوت الشعب" وقد ارتفع هديره عاليًا: بالروح بالدم نفديك... وبقية الحكاية معلومة.
سوء الظن، متى كانت مبرّراته قوية واضحة، يغدو النعت الأكثر جلاءً للتعبير عن الانحراف
لا نجدنا في حاجة إلى تفصيل القول في "سوء الظن" ومبرّراته. فمتى وقع الإخلال بالقواعد الأولية التي ترسي قاعدة الفعل (وهي سلامة العقد، من حيث الصورة والشروط التي تراعي الحفاظ على الشكل، قبل الخوض في أمر المضمون) فإنّ سوء الظن، متى كانت مبرّراته قوية واضحة، يغدو النعت الأكثر مباشريةً وجلاءً للتعبير عن الانحراف عن السبيل.
ربما رأى البعض منا في ما نقول، ونعلن مسبقًا أنّ له الحق في ذلك، حديثًا ساذجًا وتكرارًا لحقائق وأوليات يعلمها كل أحد. وربما رأى فيها البعض الآخر، ويحق له ذلك أيضًا، طوبى وتماديًا في "الابتعاد" عن طبائع الأشياء "عندنا"، كما هي في تصوّرنا وكما تمثّل في وعينا الثقافي الجماعي وليس كما هي عليه "عندهم".
(خاص "عروبة 22")