يبدو في الغالب أنه لا توجد تصوّرات مسبقة لدى بعض الطبقات السياسية الحاكمة، وإنما لدى قلّة قليلة من مستشاريها القانونيين، إلا أنّ بعضهم يميل مع السلطة حسبما تميل، ومرجع ذلك؛ أنّ الإدراك السلطوي للقوانين يتمثّل في أنها الأداة الأساسية للضبط السياسي، والجنائي، دونما نظر للأسباب المؤدية للأنماط المختلفة من السلوك الإجرامي على الصعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وخاصة في النظم التي يقودها بعض القادة من ذوي الأصول العسكرية السابقة، وهؤلاء يستصحبون معهم مفهوم الهيراركية العسكرية، والأوامر القيادية من أعلى لأسفل، ومعها قواعد قانون الأحكام العسكرية، ووظائفه في تحقيق الضبط والربط، ومقتضيات النظام العسكري.
هذا الإدراك العسكريتاري للقانون يتوافق مع مقتضيات الحياة والانضباط داخل المؤسسات العسكرية، بينما القوانين في الحياة المدنية القائمة على الصراعات الاجتماعية والمصالح المتنافسة والمتنازعة تختلف تمامًا عن الحياة العسكرية المؤسّسة علي الانضباط الصارم!.
تشكيلات نيابية موالية عاشت في ظلّ بيئة قانونية سلطوية تولّد وعيًا اجتماعيًا أنّ القانون أداة للقمع
من ثم تبلور الإدراك العسكريتاري لبعض قادة النظم السياسية العربية على أنّ القانون أداة للردع، وتحقيق أمن واستقرار النظام، وهيبته من خلال النزعة التجريمية والعقابية، لا سيما في الجرائم السياسية والاقتصادية مثل الإرهاب والجرائم الاقتصادية والتموينية والزراعية والمصرفية.. إلخ.
النزعة التجريمية تمدّدت على نحو خطير يمسّ مفهوم القانون في ذاته ومعناه، كأداة للتنظيم الاجتماعي، وحماية الحريات العامة وضماناتها، وتبني مصالح القوى الاجتماعية الواسعة وليس فقط مصالح الطبقة المسيطرة، وذلك في عديد الأحيان لضمان تماسك الدولة ذاتها!.
ما يجعل هذه القوانين تمرّر في يُسر أنّ بعض التشكيلات النيابية الموالية جاءت – خارج التقاليد الديموقراطية - من مواقع اجتماعية عاشت في ظلّ هذه البيئة القانونية السلطوية، ومن ثم تولّد لديهم إدراكًا ووعيًا اجتماعيًا شبه جمعي أنّ القانون أداة للقمع والردع. ومن هنا يبدو هذا الإدراك والتصوّر جزءًا من أزمات دولة القانون الوضعي الحديث!.
مرجع ذلك أيضًا أنّ غالب أعضاء البرلمانات يفتقرون للثقافة القانونية وللحدّ الأدنى من المبادئ العامة للقانون في ظلّ دولة مابعد الكولونيالية باستثناء الحالة المصرية تاريخيًا. وذلك بالنظر إلى تعدّد التخصّصات الوظيفية للأعضاء، فضلًا عن غياب فاعل لدور الأحزاب السياسية، ومستشاريها القانونيين، إلا قليلًا، ناهيك عن غياب دورات تدريب للنواب داخل هذه الأحزاب على بعض المبادئ والأفكار العامة لنظريات القانون.
ثمّة غياب أيضًا للجان الخبرة القانونية، وفي التخصّصات المختلفة داخل تشكيل بعض هذه الأحزاب، تقوم بدرس مشروعات القوانين، وتقدّمها لنوابها في البرلمان! وأحيانًا بعضها يقوم بذلك دون فاعلية!.
لا يوجد في بعض الأحيان خبراء متخصّصون يعملون كمستشارين للمجموعات البرلمانية والحزبية، يمكن أن يساعدوا النواب في الإعداد لمناقشة مشروعات القوانين المقدّمة من الحكومة أو من بعض أعضاء البرلمان.
من هنا تراجع الدور التشريعي الفعلي لبعض البرلمانات العربية، بل وبعض هذه التشريعات المعدّة على عجل يتمّ تعديلها بعد ذلك بوقت قصير!.
"أخ أكبر" رقمي يتابع الناقدين والمعارضين للنظم السياسية العربية السلطوية
إحدى أزمات السياسات التشريعية تبدو في القوانين السياسية الطابع والمحتوى وذات الطبيعة التجريمية والعقابية المغلظة، وتتمثل في الصياغات العامة السائلة على خلاف مبدأ الصياغة الواضحة والمحددة في مجال التجريم والعقاب، وهو ما يتيح سلطات واسعة لجهات الضبط، والتحقيق في تطبيق هذه النصوص العامة والغامضة في بعض الأحيان على حالات واسعة ترى السلطة الحاكمة أنها ذات طابع سياسي، وخاصة إزاء المعارضات السياسية، أو مواطنين عاديين!. من هنا تتزايد حالات القبض والاعتقالات والحبس الاحتياطي وفي بعض الأحيان دون مسوغات حقيقية، وفي ظلّ حالات توسيع دائرة الاشتباه، وخاصة في القضايا السياسية، وإسناد بعض السلوكيات العادية إلى تنظيمات سياسية مجهولة أو تعطى لها مسميات فيما بعد على نحو يشكل تهديدًا واسع المدي للحقوق والحريات العامة والشخصية!.
تزايدت هذه النزعة في ظلّ الثورة الرقمية، وقيام بعض السلطات العربية بشراء أنظمة رقابة رقمية تتابع المعارضين السياسيين، وبعض العاديين الرقميين على منشوراتهم وتغريداتهم وفيديوهاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. هذه البرامج الرقمية الرقابية – بعضها لشركات إسرائيلية – تُباع للدول لتشكّل رقابة رقمية لـ"الأخ الأكبر" الرقمي الذي يتابع الناقدين والمعارضين للنظم السياسية العربية السلطوية لقمع الحريات الرقمية.
ثمّة غياب لإدراك الدور الوظيفي للقانون في التغيّر الاجتماعي ودينامياته لدى السلطة الحاكمة والبرلمانات، وخاصة في تنظيم المصالح المتعارضة، وتغليب ما يتّفق ومصالح المخاطبين بأحكامه، والأهم الدور الذي لعبه القانون تاريخيًا في بناء هندسات اجتماعية في إطار التحوّلات التي تمّت لبناء الدولة المصرية الحديثة -على سبيل المثال-، والاندماج في الاقتصاد الرأسمالي الدولي في عهد إسماعيل باشا مع تجارة القطن. ارتبط هذا الدور وهندساته الاجتماعية مع أقلمة القانون الأوروبي في البيئة الاجتماعية، وأيضًا على مستوى التطبيق من خلال القضاء المصري، وتأسيس تقاليد قضائية وطنية وخاصة بعد اتفاقية مونتريه 1937 وتوحيد جهات القضاء المصري.
الأهم هو الدور الذي لعبه القضاء والجماعة القضائية والقانونية المصرية في حماية وصون الحريات العامة والشخصية من انتهاكات السلطاة التنفيذية، وأجهزة الدولة المختلفة في المرحلة شبه الليبرالية 1923 -1952.
يُلاحَظ أيضًا أنّ الانفجارات القانونية للآلات التشريعية العربية مواكبة لتفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأيضًا لظواهر الإنجازات السكانية في دول العسر الاقتصادي والكثافة السكانية، حيث تتّسم السياسات العامة والاقتصادية تحديدًا بالاختلال والاضطراب والفشل مع تفاقم المديونيات الخارجية، وخاصة مع التحوّلات من رأسمالية الدولة إلى الخصخصة والسياسات النيوليبرالية الجديدة، وتراجع كبير في سياسات الدعم العيني، هنا لجأت السلطات الحاكمة إلى القانون والتجريم، وتغليظ العقاب في محاولة للضبط الاجتماعي والاقتصادي، لكنها أدت إلى تفاقم مشكلة ضعف فاعلية القانون في التطبيق وانتشار الفساد الإداري والهيكلي والسياسي في بعض الأحيان والحالات، وهو ما فتح المجال لقانون الفوضى والرشى في ظلّ كثافة سكّانية ضخمة، وأيضًا ارتفاع مستويات الفقر وما وراء تخومه.
حريات السوق الاقتصادي، لا بدّ من تكاملها مع حريات السوق السياسي والتعددية والحريات العامة
بات القانون في الوعي شبه الجمعي أداة تسلّط سياسي، لدولة جبائية تفرض الضرائب غير المباشرة، والرسوم على المواطنين ولا تؤدي إلى تحسين ملحوظ في الخدمات العامة بل التردي العام لها. من ثمّ تمدّد اللجوء المضاد لقانون الواقع عبر آليات الفساد في الوظيفة العامة لإيقاف تطبيق قانون الدولة الذي يفتقر إلى توازن المصالح المتنازعة والمتصارعة. ومن ثم تسود الفوضى، وأشكال الفساد البيروقراطي التي تعيق تطبيق القانون بفعالية وحزم ونزاهة على المخاطبين بأحكامه.
ثمّة أيضًا غياب لدى المشرّعين والسلطة الحاكمة لعلاقة القانون في إطار التنمية حتى في ظلّ الرأسمالية النيوليبرالية، وأنّ حريات السوق الاقتصادي، لا بدّ من تكاملها مع حريات السوق السياسي والتعددية والحريات العامة وضماناتها، وأيضًا الشفافية والحوار ومحاربة أشكال الفساد السلطوي والبيروقراطي، وحرية تداول المعلومات، ومجالس تشريعية فعّالة تمارس أدوارها الوظيفية في التشريع والرقابة البرلمانية على أعمال السلطة التنفيذية، واستقلال السلطة القضائية والجماعة القضائية!.
مثل هذه النظرة التكاملية للقانون في إطار التنمية، حتى في النيوليبرالية الاقتصادية، غائبة في الإدراك والوعي السلطوي الحاكم، من هنا تسود الارتباكات والتشوّش في عقل السلطة والمشرّعين، ويسود قانون الفساد والفوضى، والأخطر انتهاكات سلطوية واسعة النطاق للحقوق والحريات العامة تأكيدًا للطغيان المحمول على الفساد السياسي والإداري، وتدنّي مستويات المعرفة والرأسمال الخبراتي السياسي والقانوني، الذي يسم الحكّام في غالب الدول العربية التسلّطية.
(خاص "عروبة 22")