وكأنّ "المشكلة" كلّها بدأت بعملية حماس صباح السابع من أكتوبر. يريد الإسرائيليون أن ننسى وينسى العالم أنّ القضية عمرها يمتد إلى ما هو أكثر من ثلاثة أرباع القرن. وكأن لا "فلسطينيين" هناك، بل حفنة من الإرهابيين على العالم الحر أن يتعامل معهم كما تعامل مع "داعش".
بالربط الإعلامي المقصود بين حماس و"داعش" يريد الإسرائيليون الاستفادة من الصورة الذهنية التي ارتبطت بالحق أو بالباطل بتنظيم الدولة (وشعاراته)، وبالأفلام "جيدة الإخراج والتصوير" لقطع الرؤوس، وسبي النساء. وبما كان من تحالف "دولي" غير مسبوق لمواجهته. شئنا أم أبينا صار اسم "داعش" رمزًا للشر المطلق (المتجاوز للحدود للسياسية)، وبالطبع لم يدخر البعض وسعًا في ربطه ذهنيًا بالإسلام، مما جعل القبعة ملائمة (دعائيًا) لإلباسها، ولو عنوة لحركة حماس، ليس فقط لينسى الجميع أنها حركة "مقاومة"، كما يقول اسمها وميثاقها. بل الأهم لينسى العالم القضية الأساسية، وأنّ الحرب ليست مع حماس، بل مع الفلسطينيين؛ شعبًا وقضية.
هذه ليست "حربًا مع حماس" بل هي حرب مستمرّة على الشعب الفلسطيني كلّه
وباختزال ما يجري على الأرض في ثنائية إسرائيل / حماس، يريد الإسرائيليون الاستفادة من موقف البعض السلبي في عالمنا العربي من تنظيم "الإخوان المسلمين"؛ الذي (كانت) الحركة تنتسب إليه. في محاولة خبيثة لسحب القضية الحقيقية إلى فخ الاستقطاب العقيم الذي عمل البعض في السنوات الأخيرة على أن يتجذر في نفوس الناس.
تكذب إسرائيل، وتكذب آلتها الإعلامية، حين تقول إنها "حرب على حماس".
هي ليست حربًا على حماس، بل حرب (مستمرة) على الفلسطينيين، وليس فقط في غزة، بل في الضفة أيضًا. بل ولن نكون مبالغين حتى إذا قلنا في كل ركن في هذا العالم يعيش فيه الفلسطينيون. لمن نسي، لم تكن حماس قد ظهرت عندما اغتال الإسرائيليون كمال عدوان (ورفيقيه؛ كمال ناصر، وأبو يوسف النجار) في بيروت قبل خمسين عامًا، ولم يكن خليل الوزير (أبو جهاد) حمساويًا، حين اغتالته إسرائيل في تونس (حمام الشط) 1988، ردًا على الانتفاضة (الفلسطينية) الأولى.
لم تكن حماس قد ولدت، حين استشهدت شادية أبو غزالة في سن التاسعة عشرة في بداية انطلاق المقاومة الفلسطينية المسلّحة 1968، كما لم تكن لسميتها ليلى خالد، ولا لدلال المغربي علاقة بحماس، أو غيرها من الفصائل (الإسلامية) حين نفذا عملياتهما (الفدائية) في 1969، و 1978.
تكذب إسرائيل (ومن يروّج روايتها بيننا من الحمقى) حين تقول إنها حربها مع حماس.
لم يكن أبو عمار حمساويًا، ولكنّ الإسرائيلين حاصروه، أو بالأحرى اعتقلوه في المقاطعة لسنتين كاملتين حتى مات (أو ربما قتلوه). لم يشفع له ذهابه إلى أوسلو، ولا مصافحته لرابين، ولا حديثه عن "سلام الشجعان".
كما لم يكن محمد الدرة غير طفل في العاشرة، حين قتلته رصاصات إسرائيلية في اليوم التالي لانتفاضة الأقصى 2000.
ولم يكن أبو على مصطفى (اليساري / القومي) حمساويًا، حين اغتالته إسرائيل في مكتبه بمدينة البيرة (المحتلة) عام 2001، ولم يكن الدكتور جورج حبش حمساويًا، ولا "إسلاميًا" حين أسّس "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" 1967.
الحرب لم تبدأ في 7 أكتوبر بل بدأت من أربعينيات القرن الماضي تحت الشعار الشهير "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض"
تكذب إسرائيل أيضًا حين تحاول الإيحاء بأنّ حربها على الفلسطينيين بدأت في السابع من هذا الشهر (بعد عملية حماس).
• الحرب على الفلسطينيين "الشعب" بدأت من أربعينيات القرن الماضي، تحت الشعار الشهير "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض".
• والحرب على "فلسطينيي الضفة" تواصلت بقرارات الضم، وتوسيع المستوطنات، والاجتياحات والاغتيالات اليومية.
• والحرب على "فلسطينيي التسوية" تأكدت بإجهاض مسيرة أوسلو التي كانت تنصّ على حلّ نهائي، ودولة قابلة للحياة (خلال خمس سنوات) انتهت فعليًا قبل ربع قرن كاملة ليس فقط بلا دولة، بل بتكريس واقع على الأرض تنتفي معه أي إمكانية لقيام دولة.
• والحرب على "فلسطيني الداخل" تأكدت بإقرار قانون "يهودية الدولة" العنصري.
• والحرب على "القضية" برمتها، بشطبها تمامًا من القاموس، بدأت بمسيرة التطبيع (المجاني) قفزًا على مبادرة الملك عبد الله 2002، وتأكدت بكلام نتنياهو أمام الجمعية العامة، و"خريطته الملوّنة" للشرق الأوسط الجديد.
• والحرب على "الأمن والاستقرار الإقليمي" تتأكد عندما ندرك خطورة ما يفعله الإسرائيليون بوضع ظهور الفلسطينيين إلى الحائط يأسًا من المستقبل، وحينما تستفزّ إسرائيل المسلمين كلّ يوم بانتهاكات مقدّساتهم.
هذه ليست "مشكلة إنسانية" فحسب بل هي مشكلة "شعب تحت الاحتلال" وأرض محتلة وشرعية دولية مستباحة
ما تفعله إسرائيل إعلاميًا (وسياسيًا) ليس هو البروباجندا الدعائية التي نعرف أنها عادةً ما تصاحب الحروب، تحفيزًا للهمم، أو تأثيرًا على معنويات العدو، بل هي استراتيجيًا أكثر من ذلك بكثير.
النجاح البادي في إختزال الصراع (أو ما كنا نسميه "مشكلة الشرق الأوسط") في عنوان "الحرب على حماس"، ليس السابقة الإسرائيلية الأولى في الانحراف بالبوصلة، ومحاولة إعادة رسم خرائط الصراع في المنطقة. الكلّ يذكر جهدًا محمومًا أوشك أن ينجح في تشكيل حلف سنّي (إسرائيلي) في مواجهة الخطر الإيراني (الشيعي). ولعل هناك من يذكر تصريحات صريحة لبنيامين نتنياهو، ولوزير دفاعه السابق الذي تحدّث بالتفصيل قبل عام واحد عن ما أسماه the Middle East Air Defense Alliance .
ولعل هناك من يذكر ما كتبت عنه منذ عشر سنوات مما بدا نجاحًا واضحًا لاستراتيجية دؤوب تحيي على مهل ذكريات "فتنة" قديمة تستحضر سيوفها الطائفية الصدئة صراعًا طائفيًا "بديلًا" للصراع العربي الإسرائيلي. وفي تفصيل هذا حديث يطول.
وبعد..
فمن نافلة القول إنّ الخطوة الأولى للفهم، هي تسمية الأشياء بأسمائها. فدعونا من فضلكم ندقّق المصطلحات والمفاهيم:
• هذه ليست "حربًا مع حماس"، وإن كانت هي الفصيل الذي يقف في المواجهة. بل هي حرب مستمرة على الشعب الفلسطيني كلّه وعلى حقّه في الحياة.
• رغم القتل، والدمار، والتجويع، وكل الفظائع الإنسانية، فهذه ليست "مشكلة إنسانية" فحسب (كما يريد البعض تصويرها) بل هي مشكلة "شعب تحت الاحتلال"، وأرض محتلة حسب ما تقضي به القوانين الدولية. وحلّها ليس بقوافل المساعدات (وإن كانت ضرورية بلا شك) بل بما يتجاوز ذلك بكثير.
• الحرب لم تبدأ في السابع من هذا الشهر، بل بدأت من أربعينيات القرن الماضي، بعمليات "تطهير عرقي ممنهج" كشف تفاصيلها شهود عيان، ومؤرّخون يهود أشهرهم إيلان بابيه في كتابه المهم The EthnicCleansing of Palestine الصادر في لندن (٢٠٠٦).
اللغة ليست مجرّد أصوات على الألسنة، أو عبارات يجري بها مداد الأقلام، بل قد تكون أداة لترسيخ واقع "مفاهيمي" فى الأذهان، يمتدّ بحكم طبائع التفكير والإدراك إلى السياسة فهمًا، وإلى القرارات تأثيرًا وفعلًا. ويبدو أنّ في إسرائيل من يتقن اللعبة.
(خاص "عروبة 22")