بصمات

هل أثرى "طوفان الأقصى" عالم القِيَم؟المقاومة.. والقيام.. والقيمة

ليس الغرض من هذا الالتفات اللّغوي، مجرّد التّشقيق في الكلمات، لأنَّ اللغة في روحها ليست من أجل وصف الأشياء فقط، بل إنّ مقاصدها الأساسية؛ تغيير العالم من حولنا وبناء واقع آخر يكون ملائمًا لمعاني الحياة وأنساق الفعل؛ وبالتّالي فاللغة هي مسكن الوجود ومنبع البناء في الفكر، كما أنّها أداة استراتيجية في التغيير والتَّثوير، ولأجل هذا، جاء هذا العنوان الذي يتبنىَّ العلاقة المنظومية بين مفاهيم ثلاثة هي : المقاومة والقيام القيمة، في ضوء ما يحدث على مرائينا ومسامعنا، من إرادة مقاومة الاحتلال والرغبة في التحرّر والعيش بكرامة وأمان. 

هل أثرى

إنّ "طوفان الأقصى" يعبّر عن فعل نوعي ومتحقّق بأقصى شروط الفعل الذي لا ينحصر فقط في تلبية المطالب البيولوجية أو الصِّناعية، إنّما يرتقي إلى المطالب الرُّوحية الكبرى والقرارات التّاريخية الاستثنائية. لقد ميّزت الفيلسوف الألمانية حنا أرندت بين ثلاث مراتب للعمل: الشُّغل والصُّنع والفعل، فإذا كان الشُّغل من أجل تلبية دائرة الحاجات البيولوجية والاستهلاكية، والصّنع من أجل الارتقاء بالحياة الاجتماعية بطريق الصّناعات الاستعمالية التي تُسَهّل حياة الإنسان أكثر، فإنَّ ميزة الفعل التَّواجد في دائرة السياسة، فالفعل السياسي لا تتعيَّن علاقته بين الإنسان والأشياء شغلًا أو صُنْعًا؛ وإنَّما بين الإنسان والإنسان؛ ففيه تنكشف حقيقة الذَّات أمام الآخرين بواسطة الخطاب وفي الفضاء العام، وهذا هو المعنى الحاسم في رسم معالم الفعل، إنَه يُكْسِب الذَّات الفاعلة معنى الخلود في الذّاكرة الجماعية للشُّعوب.

"طوفان الأقصى" يعكس رغبة الإنسان الفلسطيني في كسر حلقة الاحتلال والظُّلم والاستعباد

وهكذا، فإنَّ المعنى الأصيل للفعل، يَسْكُن الخطاب والفضاء العام من أجل التَّأثير في الآخرين، ما يسميه مارتن هيدجر بالفعل الأصيل، وقد كان هيدجر وتلميذته حنا أرندت، قد وجَّها نقدهما للمقالة الماركسية التي عظّمت من الشُّغل واختزلت جُلَّ الفعاليات الإنسانية فيه، بينما المعنى الأصيل للفعل – حسبهما - هو ذلك الذي يسكن في اللغة، واللغة التي تكشف الذّات أمام الآخرين في الفضاء السياسي العام، وكأننا هنا أمام ذلك الإقرار الهيجلي "نسبة إلى هيجل"، من أنَّ الدّخول إلى التّاريخ مشروط بالدّولة.

إنّنا نبتغي من هذه الإلماعة التقديمة، أن نصرف القول، ونترقَّى في البيان قليلًا، من أنّ "طوفان الأقصى"، يُعبّر عن فعل نوعي أصيل، يعكس رغبة الإنسان الفلسطيني في كسر حلقة الاحتلال والظُّلم والاستعباد، "فالقبول بحتمية ما يحدث هو أعظم إسهام وعون نقدّمه للقوى المهيمنة في الحرب غير المتكافئة التي يشنُّونها على عبيد الأرض"، كما يقول باولو فيريري. ذلك أنّ الحياة الإنسانية ليست هي الكتل المادية، الكتلة الأقوى تتحكّم في الأضعف، وإنما في عالم الإنسان هناك الإرادة والحرية التي لن تقبل بحتمية ما يحدث ولو بقي في الإنسان عرق ينبض أو روح تتنفَّس. من هنا، كان "طوفان الأقصى"، الذي عبّر عن حركة تجديدية في القيم الإنسانية بصورة لا سابق لها، وبيان ذلك كالتالي:

أولًا، أنّه عدّل من الواقع الخارجي: من سمات القيم أنها لا تنحصر فيما هو واقع، بل إنها دومًا حركة رافعة وحافزة لما ينبغي أن يكون، وهذا سرّها الذي تدفع به الإنسان دومًا إلى الفعل والتغيير والبناء والتَّجديد. إنّ المقاومة الفلسطينية عدَّلت من الواقع الخارجي، تعديلًا بات الاحتلال بموجبه في صورة كيان يستمد قوته من رمزيته التَّاريخية وإمكاناته التَّسليحية، فضلًا عن وِجْدانه في التطبيع مشروعية خفية فتوهَّمَ أنَّه الأقوى، وبالتَّالي، سارع المطبّع للاحتماء به، وهذا التَّطبيع أوهم الكثير، أنّ الاحتلال هو الأقوى والمطبّع يكسب جزءًا من هذه القوة، بخاصة وأنّ المسارعين إلى التطبيع هم ممن تربطهم مشاكل استراتيجية مع غيرهم إما في الجوار وإما في التحديات الإقليمية. وهكذا، فإنّ المقاومة عدّلت من قيمة الكيان كما كان في المتخيّل السَّائد، من قوة لا راد لها، إلى هشاشة وقابلية للانتصار عليه من جديد.

تنمية "قوى الذات" هي المستندات الحقيقة لإرادة التحرّر وكسر حلقة الاستعمار

ثانيًا، أنّه صنع ذواتًا أخرى: من مظاهر التّجديد القيمي هو تلك الذَّوات الفلسطينية المقاومة التي تنجز فعل التحرّر في الواقع وتكتب به تاريخها الخاص، فهي ذوات بخلاف السَّائد، نفوس منهزمة وباحثة عن المتعة والعيش بأمان في دول العالم، لقد أصبح الشَّتات الذي من المفروض أن يكون ظاهرة يهودية، ظاهرة فلسطينية، لكنَّ فعل المقاومة أعاد من جديد أهمية صناعة الذَّات، بالتربية والقوة الروحية والشُّعور الأسنى بطاقة المقاومة، إنّه تجديد نوعي وإرادة جديدة في إدارة الصِّراع مع الكيان، وتَنْمية للٌقدُرات العقلية والروحية والتقنية، مثَّلت صورة جديدة لمقاومة، عِمادها الوسائل الجديدة في المقاومة التي طوّرها الإنسان الفلسطيني، وهنا نكون جُدَراء بالقول، مدى أهمية الثقة في الذَّات؛ حتى لو أوصد كل العالم أبوابه في وجه الإنسان المقاوم، فالاعتماد على الذَّات وتنمية قوى الذات المعرفية والروحية هي المستندات الحقيقة لإرادة التحرّر وكسر حلقة الاستعمار الوحشي في صورته الصهيونية. لقد حقق "طوفان الأقصى" صناعة الذات ليس في فلسطين وحدها، وإنّما في كل أجزاء المعمورة من شعوب ترغب في صناعة ذواتها بعزل عن إرادة المهيمن.

ثالثًا، أنّه قرّب الناس فيما بينهم: مرَّت حقبة زمنية في الواقعَين العربي والإنساني المعاصرَين، امتازت بالصَّمت واللَّامبالاة، فحدثت مشكلات هنا وهناك، وكانت الحلول إما داخلية وإما شاكية إلى المجالس الدولية، لكن "طوفان الأقصى" كرحة تجديدية قد قرّب الناس من جديد، وشعرت الإنسانية في الواقع العربي والعالمي بالمسؤولية لأجل الدفاع عن المظلومين في الأرض، وخروج المناهضات العالمية تنديدًا بأفعال الجيش الإسرائيلي الذي عجز عن التصدي للمقاومة، ولم يجد إلا المستشفيات الملآنة بالأطفال والنساء كي يتوهّم انتصاره، إنّ تدمير المستشفيات والقصف العشوائي على مظلومي الأرض، هو علامة على فقدان الرؤية وعلى رسم خطة استراتيجية في التصدي لإرادة التحرّر الفلسطينية، فالأقوى عبر التاريخ أبدًا ما كان الأطفال أعداءه، الهمجي وحده من يقتل الأطفال والنساء ويعجز عن الإحاطة بالمقاومة أو تفكيكها أو اغتيال قاداتها كما كان يفعل سابقًا. إنّ "طوفان الأقصى" قد قرّب بين الناس، ووجّههم نحو قيمة الإنسان والتصدي للوحشية الجديدة في شكلها الإسرائيلي. ومعنى التقريب بين الناس هنا، ليس مسألة سياسية كالاجتماعات في الهيئات الرسمية، وإنما المقربة الروحية الإنسانية التي تقع خارج دائرة الهيئات الرسمية.

رابعًا، أنّه أثرى عالم القيم: لاشكّ أنّ فعل المقاومة الذي هو أمامنا، قد أثرى عالم القيم فعلًا، وأخرجها من سكونها المثالي إلى حركتها في الواقع والتَّاريخ، فالمقاومة تعني القيام المسنود بقيم، بمعنى أنّ القيام هو الصورة التي تظهر بها المقاومة، أما القُعود فلا يعبّر عن حركة أو فعل، والقيم هي المعاني الهادية والسَّامية التي تحفّز الإنسان من أجل أن يفعل ويكابد ويتقوَّى بها دومًا، من هنا، فإنّ ثمّة منظومة مترابطة ومتكاملة، تتجلَّى في التَّاريخ وفي الواقع، وهكذا، كان لـ"طوفان الأقصى" بهذه المبادأة والمبادرة: الفعل الأصيل والنوعي، فإلى حد قريب، كدنا ننسى قيم: التحرّر ورفع الظلم وقيمة الإنسان والكرامة والحق في الأرض والوجود من أجل المعنى، وضمرت مسألة الأقصى في قلوب الإنسانية، لكنّ فعل المقاومة قد أثرى من جديد عالم القيم الإنسانية المنسية، وأوقد شعلتها فكانت عاملًا مهمًا، لأجل تذكّر الأقصى، الرمز الديني الذي يجمع ولا يشتّت، ويوحّد ولا يفرّق، ويذكّر المنتمين إلى الأديان بأنّ وجودهم من أجل شيء رفيع وجليل وليس من أجل القبول بالظلم الإسرائيلي على المسيحيين والمسلمين على حد سواء.

إذا كان الكيان الظالم لا يزال يقتل ويعتدي بصورة عشوائية فهذه علامة من علامات النهاية

لنقل إذن، بأنّ حركة المقاومة قد استعادت الروح الإيجابية لأجل التحرّر والحياة بكرامة وأثرت عالم القيم الإنسانية، وعدّلت من الواقع الخارجي، وقرّبت العلاقة بين النّاس، وأبانت عن ضعف هذا الكيان الذي يتقوَّى به غيره من المطبّعين والطالبين للخنوع بين يديه، وهذا، فإنَّ فعل المقاومة هو شكل من أشكال الفعل القيمي التّجديدي، وإذا كان الكيان الظالم لا يزال يقتل ويعتدي بصورة عشوائية ولم يقدر على تفكيك المقاومة، فهذه علامة من علامات النهاية، وبهذه الطريقة كانت علاقة فرنسا الاستعمارية مع الجزائر، فلما عجزت عن القضاء على الثورة وهزمها الثوار الجزائريين، لم تجد إلَّا المدنيين، كي تفرغ فيهم عطشها الإجرامي، فما كانت من الثورة إلا أنّها تقوّت واستطاعت أن تهزم الاستعمار الفرنسي، والأمر عينه سيسري على الفلسطينين في قيامهم ضد الاحتلال الوحشي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن