وجهات نظر

هل صار حلم إقامة الدولة الفلسطينية أقرب؟

إثر اندلاع حرب السادس من أكتوبر/تشرين أول 1973 التي خاضتها مصر وسوريا في مواجهة العدو الصهيوني، أصرّ وزير الخارجية الأمريكي الداهية السابق هنري كيسنجر على مدى أيام أنه في حالة صدور قرار من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار فإنه يجب أن يتضمّن مطالبة الأطراف المعنيّة إلى العودة لخطوط ما قبل بدء العمليات العسكرية، أي إنهاء أهم إنجاز حققته القوات المسلحة المصرية وهو عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف الحصين وتحرير نحو أربعين كلم من أراضيها في شبه جزيرة سيناء التي احتلّها العدو في أعقاب هزيمة حرب 1967.

هل صار حلم إقامة الدولة الفلسطينية أقرب؟

الثعلب الماكر، كان يزعم لنظرائه العرب أنّ هدفه الحقيقي هو مصلحتهم، وأنه في ضوء الهزيمة الساحقة التي تمكّن الكيان الصهيوني من إلحاقها بالجيوش العربية في 1967 واحتلال سيناء بأكملها ومعها الجولان والضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة في أقلّ من ستة أيام، فإنه يحذرهم من أنّ جيش العدو سيعيد تنظيم صفوفه ويشنّ هجومًا مضادًا ويحتلّ المزيد من الأراضي العربية.

كانت الثقة الأمريكية والغربية مفرطة في القوة العسكرية لدولة الاحتلال بعد ما حققته في 1967، تمامًا كما قادة الكيان الصهيوني أنفسهم الذين أصابهم الغرور وظنّوا أنّ تفوّقهم العسكري والتكنولوجي يضمن لهم بشكل دائم تفوّق "الجيش الذي لا يُقهر".

ولكن الجيوش المصرية والسورية والعربية صمدت صمودًا بطوليًا بعد ضربة المفاجأة في 1973، وخسائر جيش العدو كانت فادحة للدرجة التي دعت الولايات المتحدة إلى فتح مخازن أسلحتها فورًا وإمداد الكيان الصهيوني بكلّ ما يطلبه، وسط صراخ وعويل من رئيسة الوزراء جولد مائير بأنّ "القوات المهاجمة على وشك الوصول إلى تل أبيب"، واضطرّ كيسنجر وحلفاء الكيان الأوروبيين في النهاية إلى الإقرار بأنّ الجيوش العربية حققت تقدمًا حقيقيًا، وصدر قرار 338 الشهير داعيًا لوقف الحرب من مجلس الأمن في 22 أكتوبر/تشرين أول، دون أيّ إشارة إلى المطلب الوهمي لكيسنجر بعودة القوات المتحاربة إلى خطوط ما قبل اندلاع القتال وتسليم الأرض المحرّرة للعدو. كما دعا القرار إلى "مفاوضات بين الأطراف المعنية تحت الإشراف الملائم بهدف إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط".

تعرف واشنطن قبل أيّ طرف آخر أنّ أهداف الاحتلال المعلنة للحرب الحالية من المستحيل تحقيقها

مقارنات كثيرة عقدت بين هجوم "حماس" الأخير في 7 أكتوبر/ تشرين أول 2023، وحرب أكتوبر/تشرين الأول 1973. ورغم عدم صعوبة مقارنة إمكانيات الجيوش العربية واتساع جبهات القتال في 1973 بما شهدته غزّة مطلع الشهر الجاري، فإنّ عناصر المفاجأة، وخداع العدو لفترة طويلة بشأن عدم وجود نوايا للهجوم، والخسارة الفادحة لجيش العدو في الجنود والمعدات، والتدخل الأمريكي الفوري لنجدة الكيان الصهيوني بتحريك حاملات طائرات ودعم مالي سخي، كلّها عوامل تبرّر المقارنة بين الحدثين.

جيش العدو أقام أسوارًا مزوّدة بأحدث تكنولوجيا لفصل قطاع غزة عن بقية أراضي فلسطين كلفته مليارات الدولارات، وبدلًا من نشر قواته بكثافة على الحدود مع غزة، تمّ الاكتفاء بمدافع آلية يمكن أن تعمل بالريموت كونترول بجانب استخدام أجهزة استشعار للكشف عن أي محاولة تسلّل. طائرات مسيّرة صغيرة قامت بالتشويش على أجهزة الاتصالات شديدة التطوّر وعطّلت المدافع الآلية التي تعمل بالريموت كونترول، تمامًا كما تم تحطيم خط بارليف في حرب 1973 واختراقه بفكرة بسيطة قدّمها ضابط مصري وهي استخدام خراطيم المياه لإحداث فتحات في الحائط الدفاعي الذي كان مزوّدًا بأسلحة كيماوية ومتفجرات ظنّ جيش العدو أنها ستكفي لردع المصريين عن السعي لتحرير أرضهم.

وفي غزّة، "بلدوزر" متهالك أحدث فتحات في السور اقتحم من خلالها المئات من الفدائيين من حركة "حماس" أرضهم في فلسطين على ظهر دراجات نارية، وعبر مظلات شراعية آلية. وخلال ساعات قليلة سيطروا على مقرّ القيادة الجنوبية لقطاع غزة وقتلوا كل من فيه من ضباط كبار وجنود، وبدا أنهم يتحركون في المكان رغم احتياطاته الأمنية وكأنهم كانوا يعيشون فيه من قبل بفضل خرائط تفصيلية كانت في حوزتهم، مما يعني أنّ الإعداد للعملية لم يقتصر على الجانب العسكري فقط لكنه شمل كذلك اختراقًا خطيرًا للمؤسسة الدفاعية الصهيونية.

ويبقى أحد أوجه المقارنة الأخيرة بين حرب 1973 وحرب غزّة الحالية متمثلًا في أنّ حكومات الولايات المتحدة والدول الغربية ما تزال ترفض حتى الآن مطالبة العدو الصهيوني بوقف إطلاق النار فورًا، رغم ما يقوم به جيش الاحتلال من مجازر بشعة قتل خلالها آلاف الفلسطينيين، غالبيتهم الكاسحة من الأطفال والنساء والمدنيين انتقامًا للهزيمة المذلّة التي لحقت به. كما تشترك الحكومات الغربية نفسها مع حكومة الاحتلال في ارتكاب جرائم حرب يعاقب عليها القانون الدولي وذلك عبر فرض الحصار الخانق على سكّان القطاع ومنع حتى المياه والطعام والدواء والوقود من الوصول إليهم.

رغم الخسائر البشرية الفادحة وهذا الكم من الجنون في القتل الذي يمارسه الاحتلال، تعرف واشنطن وحلفائها في الغرب قبل أيّ طرف آخر أنّ أهداف الاحتلال المعلنة للحرب الحالية من المستحيل تحقيقها، وعلى رأسها تصفية حركة "حماس" في غزّة وقتل كل مقاتليها. نعم قد يقوم جيش الاحتلال بعملية غزو برّي تُضاعف عدد الشهداء الفلسطينيين، لكنّ الحلف الصهيوني الغربي يعلم جيدًا أنه قد بدأ في خسارة معركة الرأي العام العالمي، بما في ذلك داخل دولهم نفسها.

الطريق الوحيد لضمان عدم تكرار ما تعرّض له الاحتلال هو إقراره بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته

هذا الضغط والرفض العالمي لما يقوم به الاحتلال من قتل على مدار الساعة للأبرياء في غزّة قد بدأ يؤتي ثماره واضطرت واشنطن وبروكسل - مقرّ الاتحاد الأوروبي - إلى المطالبة رسميًا بضرورة دخول المساعدات الإنسانية إلى غزّة، والتصديق على ما قاله الأمين العام للأمم المتحدة من أنّ ما تعرّض له جيش الاحتلال على يد حركة "حماس" لا يعني رخصة مجانية لقتل المدنيين في غزّة وارتكاب جرائم حرب بحقهم.

الخطوة العاجلة التالية يجب أن تكون الدعوة رسميًا إلى وقف إطلاق النار، تمامًا كما فعل أصدقاء الكيان الصهيوني لإنقاذ حليفهم من السقوط في أعقاب حرب 1973.

التقارير الصحفية الأمريكية تنقل عن مسؤولين في البيت الأبيض قولهم إنّ الرئيس بايدن حذّر رئيس وزراء الكيان نتنياهو من المضيّ في التصرّف بغضب انتقامًا لهجوم "حماس"، وإلا يتورّط في فتح جبهة جديدة مع لبنان. وفي الوقت الذي تركّز إدارة بايدن جهودها على حرب أوكرانيا ومواجهة روسيا والصين، فإنها بالتأكيد ليست في وارد فتح جبهة حرب واسعة جديدة أخرى مع إيران، خاصة بعد أن شهد الأسبوع الماضي استعراضًا صغيرًا لما يمكن أن يقوم به حلفاء إيران في العراق واليمن ولبنان وسوريا من تسخين لكل هذه الجبهات.

وبعد أن يتمّ إجبار العدو الصهيوني على وقف قتل شعب غزّة، ستحين لحظة الحقيقة وسيضطر جيش الاحتلال إلى الاعتراف بهزيمته المذلّة وإدراك أنه مهما حاول تهميش الشعب الفلسطيني وحقّه في إقامة دولته، فإنّ الطريق الوحيد لضمان عدم تكرار ما تعرّض له هو إقراره بذلك الحق.

بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، يبدو أنّ حلم إقامة الدولة الفلسطينية صار أقرب من أي وقت مضى.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن