المؤكد أنّ أزمة نظم الاعتدال، وعلى رأسها الخبرة المصرية، لا ترجع لكونها لم تنتقل من معسكر التسوية السلمية إلى معسكر التشدّد والحرب التي لم يدخلها من لا زالت أرضهم محتلّة في الجولان، إنما في عدم استفادتها السياسية والاقتصادية من التوقيع على معاهدة السلام وبناء نموذج تنموي حقيقي يحقق الرخاء والديمقراطية.
إنّ مصر التي لم تدخل في أي مواجهة عسكرية مع الدولة العبرية منذ نصف قرن ووقّعت على معاهدة سلام منذ 44 عامًا، لا زالت تعاني من مشكلات اقتصادية متفاقمة ومن أزمة ديون غير مسبوقة ومن تراجع في مواردها الانتاجية وتعثّر مسارها الديمقراطي.
وإذا كان مفهومًا أنّ هناك من يرفض خيار "الاعتدال الساداتي" من حيث المبدأ، إلا أنّ اعتراضنا الأساسي أنه كان يمكن حتى في ظل هذا الخيار أن تحقّق مصر تنمية اقتصادية وتبني نموذجًا ديمقراطيًا خاصة بعد سقوط الحجة التي ردّدها البعض بأن سبب مشاكل مصر الاقتصادية يرجع لحروبها من أجل القضية الفلسطينية، والمفارقة أنّ أوضاعها الاقتصادية ودورها السياسي وتأثيرها الإقليمي كان أكبر في وقت الحرب عن أوقات السلم الذي لم يجلب الرخاء كما وعد الرئيس السادات.
لا الممانعون حرّروا فلسطين ولا المعتدلون بنوا نموذجًا ملهمًا في التنمية والرخاء يُقنع إسرائيل بالتسوية
أما قوى الممانعة ونظمها فقد اختفت تقريبًا من العالم العربي بعد سقوط صدام حسين والقذافي واختفاء اليمن الجنوبي وانتقال منظمة التحرير إلى محور الاعتدال ودخولها في مسار تسوية سلمية مع إسرائيل انتهى بالتوقيع على اتفاق أوسلو للسلام في 1993 والذي سمح بعوده المنظمة للأراضي الفلسطينية وقيام السلطة الوطنية التي أدارت بعض مناطق الضفة وقطاع غزة تحت مسمى الحكم الذاتي.
أما سوريا فقد خرجت عمليًا من هذا المحور بعد أن أُنهك جيشها في الحروب الداخلية واكتفت برفع شعارات الممانعة، خاصة أنها لم تدخل في مواجهة عسكرية واحدة منذ حرب 1973 من أجل تحرير الجولان، وتحوّلت أولويات نظامها في البقاء الأبدي في السلطة ولو على حساب مئات الآلاف من أبناء الشعب السوري.
أما إيران فبقيت الدولة الأبرز في الشرق الأوسط رافعةً لواء "الممانعة" والتشدّد ورفض التسويات السلمية، ودعمت فصائل مقاومة مسلّحة ضد إسرائيل، ورفعت شعارات داعمة للقضية الفلسطينية، لكنها في الوقت نفسه دعمت أذرعًا وتنظيمات ظلّ أحد أهدافها الرئيسية الدفاع عن مصالح طهران ورغبتها في توسيع دورها الإقليمي وليس الدخول في حرب ضد إسرائيل لتحرير القدس.
لقد كشف النصف قرن الماضي عن أزمة كلا الطرفين، فلا المعتدلون أصبحوا معتدلين حقيقيين، وحققوا التنمية والديمقراطية لشعوبهم وأثروا إقليميًا ودوليًا كما كان يُنتظر منهم، ولا المتشدّدون حاربوا إسرائيل وحرّروا القدس والمسجد الأقصى، ومع ذلك ظلّت هذه الثنائية حاضرة في تحليلات كثير من الكتابات العربية والأجنبية حتى عملية غزة الأخيرة والعدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة وتعمّد استهدافها للمدنيين والعزّل.
الحقيقة أنّ الحديث عن نهاية ثنائية الاعتدال والتشدّد لا يعني اختفاء الأفكار والنظم والتنظيمات التي تنحاز لأيّ من التوجّهين، إنما يعني أنه لم يعد عمليًا هناك فرق في النتائج بين كلا التوجهين بسبب إخفاق كلا المشروعين في تحقيق أهدافه التي وضعها لنفسه، فلا الممانعون حرّروا فلسطين ولا المعتدلون بنوا نموذجًا ملهمًا في التنمية والرخاء يُقنع إسرائيل بالتسوية السلمية.
كما اختفت الخلافات بين جمهور كلا التيارين في التعاطي مع القضية الفلسطينية أمام هول ما يجرى في غزّة من قتل وحشي بمباركة أمريكية، فمعارضو "حماس" في محور الاعتدال والذين يرفضون توجّهها العقائدي وأسلوب المقاومة المسلّحة، لم يطرحوا إلا بصورة خافتة السؤال "الأيديولوجي" المعتاد في العالم العربي حول جدوى عمليات المقاومة المسلّحة والعائد من ورائها، والذي طُرح بقوة في المرّات السابقة، بسبب بشاعة الجرائم الإسرائيلية والانحياز الغربي الفج للدولة العبرية.
خطورة الدعم الأمريكي غير المحدود والتمسّك بجملة أنّ "من حقّ إسرائيل الدفاع عن نفسها" يعني عمليًا إعطاءها شرعية لقتل المدنيين من أطفال وشيوخ ونساء، وأصبح المدني الإسرائيلي يستحق الحياة ونظيره الفلسطيني يستحق الموت، في مشهد جعل المعتدلين والمتشدّدين يطرحون أسئلة عن أسباب هذا التمييز والكيل بمكيالين تجاه أرواح الناس، وتراجعت خلافات التوجّهات السياسية "معتدل أم متشدّد" لصالح أسئلة "وجودية" حول هل استهداف الفلسطينيين بهذه الطريقة يرجع إلى قوميّتهم أو ثقافتهم أو ديانتهم أو لون بشرتهم؟، لأنه بالتأكيد ليس بسبب أنهم ممانعون أو معتدلون.
إنّ الانحياز الغربي والأمريكي الفج لإسرائيل، واعتبار أنّ هناك ضحايا يبكي عليهم وآخرون لا قيمة لهم، شكّك الجميع في قيم أكبر تتعلّق بالعدالة والشرعية الدولية والمساواة بين الشعوب، وأدى إلى تراجع التباينات الايديولوجية في العالم العربي حول الموقف من مسار التسوية والخلاف بين مؤيّدي التطبيع ومعارضيه وبين خيارات التشدّد والاعتدال.
بشاعة الجرائم الإسرائيلية في غزّة دفعت مؤيّدي التشدّد والاعتدال في مركب واحد
لقد أفرغت الممارسات الإسرائيلية منذ توقيع اتفاق أوسلو في 1993 مشروع الاعتدال العربي من مضمونه، بعد أن قضت على "حلّ الدولتين" وأضعفت تمامًا السلطة الفلسطينية، مما جعل الانقسام العربي بين معتدلين وممانعين يتراجع بدرجة كبيرة أمام الجرائم الإسرائيلية في غزّة لأنّ الموقف المبدئي لتيار الاعتدال العربي من رفض المساس بأيّ مدني وخلافه مع قوى الممانعة والمقاومة المسلّحة التي لا تدعو لقتل المدنيين إنما تعتبر استهدافهم رد فعل مشروع على جرائم الاحتلال، وجد أنّ قادة الدول الديمقراطية الكبرى قبلوا وتواطأوا على قتل الفلسطينيين بحجج واهية وميّزوا بين المدنيين الفلسطينيين والإسرائيليين على أُسُس قومية ودينية وثقافية، وهو موقف كان صادمًا للرأي العام العربي بمختلف توجّهاته السياسية وتبايناته الأيديولوجية.
من الواضح أنّ بشاعة الجرائم الإسرائيلية في غزّة دفعت مؤيّدي التشدّد ممن يرون أنّ "تحرير فلسطين لن يحدث إلا بالمقاومة المسلّحة"، والاعتدال ممن يرون أنّ الحل في "ضغوط مدنية وشعبية وقانونية لتحقيق التسوية السلمية"، في مركب واحد خاصة هؤلاء البعيدون عن حسابات المشاريع المذهبية واصطفافات المحاور، بعد أن اكتشفا أنّ ما يجري حاليًا في غزّة يطرح أسئلة وجود وليس معارك حدود.
(خاص "عروبة 22")