تُمثّل الطائفة الدرزية أحد المفاتيح الحسّاسة في البنية الطائفية للمشرق العربي، وينتشر الدروز بشكلٍ رئيس في سوريا (السويداء، ريف دمشق، الجولان)، وفي لبنان (جبل الشوف، عاليه، وادي التيم)، وفي فلسطين التاريخية (الجليل، الكرمل، الجولان المحتل) ويحمل عدد منهم الجنسية الإسرائيلية، وأعداد أقلّ في الأردن.
ويُعتبر دروز فلسطين/إسرائيل حالةً خاصة؛ فبعد عام 1948، جُنّدوا إجباريًّا في الجيش الإسرائيلي (بعكس المسلمين والمسيحيين)، مع ذلك، يرفض جزء من الدروز في الجولان السوري المحتلّ الاعتراف بشرعية الاحتلال، ويرفضون الخدمة في الجيش الإسرائيلي. وقد عملت إسرائيل منذ نشأتها على استيعاب الدروز داخل مشروعها السياسي والعسكري من جهة، مع توظيفهم ورقة ضغطٍ إقليميّة من جهة أخرى. ومع تجدّد الغارات الإسرائيلية على دمشق مؤخرًا، بزعم الدفاع عن الأقلية الدرزيّة في سوريا، تبرز الحاجة لتحليل هذا المسار المعقّد وتفكيك أهدافه.
الخلفية التاريخية للعلاقة بين الدروز وإسرائيل
اتّبعت تل أبيب سياسةً مختلفةً مع الدروز الفلسطينيين، إذ فرضت التجنيد الإجباري عليهم منذ 1956، وَسَعَت لصناعة هوية "درزية مستقلة" تفصلهم عن العرب والفلسطينيين. وتمّ ذلك عبر فصل المناهج التعليمية، ومنحهم تمثيلًا محدودًا في الكنيست، إلى جانب استخدامهم في وحداتٍ عسكريةٍ مخصّصة، والهدف من ذلك خلق طائفة "مُميّزة موالية"، تستخدمها إسرائيل جسرًا داخليًّا نحو العرب، ودرعًا أمام انتفاضاتهم.
تحاول إسرائيل اللعب على التناقضات الطائفية من أجل مصالحها الأمنية، إلّا أنّ هذا النهج قصير النظر، بخاصة حين يُستخدم ضدّ طائفة تُدرك تمامًا تعقيدات موقعها، كالدروز، والضربات على دمشق – بذريعة حماية الدروز - لا تعبّر فقط عن قلق عسكري، بل عن فشل سياسي وأخلاقي.
ما يجري في سوريا في الوقت الراهن يُعدّ كارثةً غير مسبوقةٍ ومأساةً بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى. فقد شُنّت غارات جوية إسرائيلية استهدفت قلب العاصمة السورية دمشق، ودمّرت مبنى وزارة الدفاع ومبنى هيئة الأركان العامة.
لكنّ السؤال المطروح هو: لماذا تقصف إسرائيل النظام السوري الجديد الآن تحديدًا؟ الإجابة تكمن في مشهدٍ سياسيّ وأمنيّ أكثر تعقيدًا ممّا يبدو على السطح.
تسعى إسرائيل إلى الحيلولة دون تمكّن أي نظام سُنّي قوي من السيطرة على دمشق
في الأيام الأخيرة، شرع النظام السوري الجديد في تنفيذ عملياتٍ أمنيةٍ في محافظة السويداء، التي تسكنها غالبيةً من طائفة الدروز، وهي من الأقليات البارزة في سوريا.
وقد جاءت هذه العمليات على خلفية توتّر داخلي وصدامات مسلحة بين أبناء الطائفة الدرزية وبعض العشائر البدوية في المنطقة، وأسفرت عن انتهاكاتٍ خطيرةٍ ارتُكبت بحقّ السكان المحليين، بغضّ النظر عن الأطراف الضالعة فيها.
هذا التوتّر لا يُمكن فهمه بمعزلٍ عن السياق التاريخي لصراعاتٍ طائفيةٍ مُتجذّرةٍ في المنطقة تعود إلى أكثر من ألف عام، لكن ما يهمّنا الآن هو التساؤل المحوري: ما علاقة إسرائيل بما يجري؟ ولماذا تتدخّل في نزاع داخلي سوري بحت؟!.
منذ سقوط نظام بشار الأسد، وصعود نظام أحمد الشّرع إلى السلطة، أظهرت إسرائيل دعمًا علنيًّا لطائفة الدروز في سوريا، وصرّحت بأنها مستعدّة لحمايتهم من "اعتداءات" النظام الجديد، بل إنّ الدعم تجاوز التصريحات، ليصل إلى تزويد بعض الفصائل الدرزية المسلحة في السويداء بالمساعدة اللوجيستية والغطاء الجوي المباشر، تحت ذريعة "الدفاع عن الأقلّيات".
لكن، هل هذا الدعم نابعٌ من تعاطف حقيقيّ مع الطائفة الدرزية؟ بالقطع لا؛ فالأمر يتجاوز ذلك بكثير، ويُقسَم إلى مستويَيْن من التحليل:
البُعد السياسي - الاستراتيجي
تسعى إسرائيل إلى الحيلولة دون تمكّن أي نظام سُنّي قوي من السيطرة على دمشق. وليس ذلك لأنها تُفضّل نظامًا علويًّا كالنظام السابق، أو نظامًا درزيًّا، بل لأنها ببساطة ترفض قيام أي نظام وطني مستقلّ في سوريا يمكن أن يُهدّد مصالحها مستقبلًا.
استخدام الطائفة الدرزية استمرار لنهج إسرائيل التاريخي في توظيف الانقسامات الداخلية لتفكيك الدول المحيطة بها
وبعد انهيار الجيش السوري إثر سقوط نظام الأسد، باتت إسرائيل ترى في هذا الفراغ فرصةً لتثبيت سيطرتها على سوريا من خلال تفتيتها إلى كِياناتٍ طائفيةٍ متنازعة.
ومن ثم، فهي تسعى إلى زعزعة استقرار النظام الجديد، وضرب مؤسّسات الدولة، ومنع أي توحيد للقوى العسكرية أو السياسية؛ ولذا، فإنّ استخدامها للطائفة الدرزية ورقة ضغطٍ ليس إلّا استمرارًا لنهجها التاريخي في توظيف الانقسامات الداخلية لتفكيك الدول المحيطة بها.
مشروع "ممر داوود"
المسألة الأخطر تتعلّق بما يُعرف بـ"ممر داوود"، وهو مشروعٌ استراتيجيّ يمتدّ من مرتفعات الجولان المحتلّة، مرورًا بدرعا والسويداء، وصولًا إلى منطقة التنف على الحدود العراقية، حيث تتمركز قاعدة أميركية، ومن هناك يتّجه نحو شمال شرق سوريا ومن ثم إلى كردستان العراق، ليشكّل طريقًا بريًّا يصل بين إسرائيل والخليج وآسيا الوسطى.
الهدف من هذا المشروع، بحسب تقديراتٍ استراتيجية، هو فتح منفذٍ بديلٍ لإسرائيل نحو الشرق من دون الاعتماد على "قناة السويس"، ما يُضعف من الأهمية الجيوسياسية لمصر، ويُقوّض في الوقت ذاته مشروع "الحزام والطريق" الصيني الذي تُعد القناة جزءًا محوريًّا فيه.
إسرائيل ماضية في تنفيذ رؤيتها الكبرى التي لم تتغيّر "من النيل إلى الفرات"
ولمّا كانت محافظة السويداء تقع في قلب هذا الممر، فإنّ أي قوة عسكرية سُنيّة أو حتّى أي جيش وطني سوري جديد قد يُهدّد هذا المشروع، يتمّ التعامل معه باعتباره عدوًّا يجب القضاء عليه قبل أن يشتدّ عوده.
التصعيد الإسرائيلي
القيادة الإسرائيلية ترى اللحظة الرّاهنة فرصةً استراتيجيةً نادرةً لتوسيع نفوذها في سوريا وفرض واقعٍ جديد. وقد صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي "كاتس"، مؤخرًا: "انتهت مرحلة الضربات التحذيرية... استعدّوا للضربات المؤلمة."
لم يعد الصدام العسكري العلني مع إسرائيل هو الشرط الوحيد لاعتبارك عدوًّا لها. بل إنّ مجرد امتلاكك لنوايا بناء دولة مستقلة، أو إعادة تشكيل جيش وطني، أو حتّى السيطرة على موقع استراتيجي، قد يُعَدُّ مبرّرًا كافيًا لإعلان الحرب عليك، حتى وإنْ سعيتَ لمهادنتها أو التطبيع معها. فإسرائيل، كما هو واضح من سياستها، ماضية في تنفيذ رؤيتها الكبرى التي لم تتغيّر "من النيل إلى الفرات".
ماذا تفعل سوريا؟
أولًا، على سوريا القيام بإعادة دمج الدروز في المشروع الوطني وفتح قنوات حوار مباشر مع القيادات الدرزية في السويداء، في إطار التأكيد على وحدة الأرض والهوية الوطنية، وتبنّي خطابٍ جامعٍ لا طائفيّ، مع استيعاب المخاوف الدرزية ووضع حلولٍ وطنيةٍ لها.
اللعبة الإسرائيلية تستخدم الأقليات أدوات طيّعة لتفكيك الهوية الجامعة
كلّ ذلك يتزامن مع إطلاق حملةٍ إعلاميةٍ تكشف الدور الإسرائيلي في تفتيت الصّف الدرزي، وتوثيق ذلك بالروايات والشهادات وتسليط الضوء على تاريخ الدروز في مقاومة الاستعمار والصهيونية (الجولان، فلسطين، الثورة السورية الكبرى)، وتفنيد أكاذيب إسرائيل حول "حمايتها للدروز"، وكشف دورها في قمعهم بالجولان المحتل.
الدور العربي
المطلوب في مواجهة التصعيد، تبنّي موقف عربي تضامني واضح، وإصدار بياناتٍ رسميةٍ من الحكومات العربية تُدين العدوان الإسرائيلي على دمشق، وتستنكر استغلال الدروز، والتشديد على أنّ الدروز مكوّن أصيل من النسيج العربي، وليسوا أقليةً منفصلةً أو قابلةً للاحتواء الصهيوني. مع ضرورة تخصيص مساحاتٍ في الإعلام العربي لكشف أكاذيب إسرائيل عن علاقتها بالدروز، وإبراز أصوات المفكّرين والناشطين الدروز الرافضين للتطبيع والتجنيد داخل إسرائيل. وتنظيم فعّاليات ثقافية وتاريخية تبرز دور الدروز في المقاومة العربية (من سلطان باشا الأطرش إلى مجاهدي الجولان)، مع توجيه رسائل تضامن من المثقّفين العرب إلى المجتمع الدرزي، بخاصة في فلسطين والجولان، لخلق وحدةٍ وجدانيّة.
الدروز لن ينجرّوا وراء مشاريع التجزئة إلّا إذا تُركوا فرائس للفراغ السياسي والتهميش والدعاية الصهيونية
إنّ الردّ العربي الحقيقي لا يكون فقط بشجب الضربات على دمشق، بل بفكّ شيفرة اللعبة الإسرائيلية التي تستخدم الأقليات أدواتٍ طيّعةً لتفكيك الهوية الجامعة.
الدروز، الذين حملوا راية التحرّر في محطاتٍ تاريخيّةٍ ناصعةٍ، لن ينجرّوا وراء مشاريع التجزئة إلّا إذا تُركوا فرائس للفراغ السياسي، والتهميش، والدعاية الصهيونية. وإنقاذ هذا المكوّن الأصيل من التوظيف الإسرائيلي هو مسؤوليّة وطنيّة وقوميّة وإنسانيّة في آنٍ واحد.
(خاص "عروبة 22")