التوجه إلى جوهر الأزمة مباشرة وهو الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.. هذا ما دعا إليه الرئيس عبدالفتاح السيسي، خلال قمة القاهرة للسلام، وعند استقباله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
إسرائيل تتهرب من التزاماتها، وتتجاهل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، مستندة إلى القوة العسكرية، وتأييد الولايات المتحدة وحلفائها لكل ما تفعله، ومن دون شروط أو سقف، وكانت النتيجة أن ظنت إسرائيل وحكومتها اليمينية المتطرفة أن بالإمكان ابتلاع كل حقوق الشعب الفلسطيني، بل ذهبت أبعد من ذلك، واعتقدت أنها يمكن أن تقضي على فكرة الدولة الفلسطينية، وأن تتخلص تماما من القضية الفلسطينية، وأن تلقي بهم إلى الدول المجاورة، أو توزعهم على الدول العربية أو غيرها.
هذا التصور أو الأوهام الإسرائيلية هي التي قادت إلى تلك الحرب والمواجهات الدامية، وفوجئت إسرائيل بهجوم لم يسبق له مثيل شنته كتائب القسام «الذراع العسكرية لحركة حماس» في السابع من أكتوبر الحالي، وتسبب في خسائر هائلة في القواعد العسكرية والمستوطنات الإسرائيلية المحيطة بقطاع غزة، كما تسبب الهجوم أيضا في حالة هذيان أصابت حكومة نتنياهو الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل.
ولم يجد أمامه إلا الأهداف السهلة وهي المدنيون، فلم يتوقف الطيران عن قصف المنازل، والمدفعية تدك ما تصل إليه دون تمييز، والبوارج تطلق حممها، لتغرق غزة في حمامات من الدماء، ولم تسلم المستشفيات والمساجد والكنائس من التدمير، بل كانت ضمن بنك الأهداف الذي وضعته إسرائيل، والذي يتسع لكل الخدمات التي يحتاجها السكان المدنيون.
فالمخابز والمطاعم ومخازن الغذاء كانت من بين الأهداف، فهل هذه بطولة تعيد الهيبة للجيش الإسرائيلي المدجج بترسانة هائلة من الأسلحة المتطورة والذخائر؟!، وسقط في تلك المذابح أكثر من ألفي طفل، ولم تقف الجرائم الإسرائيلية عند هذا الحد، فقد منعت وصول الغذاء والدواء والوقود وقطعت الكهرباء ومياه الشرب، وأطلقت ما سمته «أحزمة النيران» لتطوق أحياء أو مربعات سكنية بكل ما فيها. وكل هذه الجرائم والدماء لن تحقق لإسرائيل الأمان، ولن تنقذ نتنياهو وحكومته من المصير البائس الذي ينتظرهما، حيث يظن أنه بمزيد من المذابح يمكن أن يهدئ من روع أسر القتلى والأسرى، وأن يمتص غضب منتقديه، ويتهرب من المسؤولية عما حدث من هزيمة مدوية تلقاها الجيش الإسرائيلي من منظمة لا تملك إلا القليل من السلاح في قطاع غزة المحاصر برا وبحرا وجوا، والذي تحول إلى أضخم سجن فى العالم، محاطا بالأسوار والأسلاك الشائكة، وليس فيه فرص عمل أو بارقة أمل لشبابه، فماذا كان ينتظر من هؤلاء؟
لقد تراكمت الكراهية للاحتلال وحصاره وجرائمه وغطرسته، وكان لا بد من الانفجار، وهذا ما حدث في السابع من أكتوبر الذي أسقط نظرية الأسوار العالية الذكية والقاتلة، وتوقفت مجساتها الإلكترونية عن العمل، وتعرضت الاتصالات للتشويش فكانت المفاجأة الكبرى، والصفعة المدوية، فماذا سيفعل نتنياهو غير ارتكاب المزيد من المذابح التي لن تفعل شيئا على الصعيد العسكري، وإنما ستثير غضب العالم كله وليس العرب فقط؟ هل سيشعل المزيد من النيران حتى تصل الحرائق إلى الكثير من الدول، أولاها لبنان وسوريا، ثم تتمدد إلى دول أخرى؟ هل يراهن على تورط الولايات المتحدة وبريطانيا في الحرب؟ فلينظر إلى أوكرانيا، التي هبت الولايات المتحدة لإنقاذها وإرسال كميات هائلة من الأسلحة والذخيرة، وكذلك فعلت بريطانيا ودول أوروبية أخرى، فهل أنقذتها كل تلك الأسلحة؟ هل يظن أن تلك الدول سترسل جنودها لإشعال المزيد من الحرائق؟ فليفكر قليلا ثم ليُجب، هل من مصلحة الولايات المتحدة وأوروبا أن تشتعل المنطقة، وأن تحترق المصالح الأمريكية، وأن تتهدد إمدادات الغاز والنفط، وأن تستثير كراهية الشعوب؟ بالتأكيد لن ترحب الولايات المتحدة بأن تتعرض لكل هذه المخاطر، وأن تفسح الطريق أمام خصميها الرئيسيين الصين وروسيا لتتقدما، وتزيحا النفوذ الأمريكي والأوروبي من تلك المنطقة الحيوية، أي أن نتنياهو يقف حجر عثرة أمام المصالح الأمريكية، ولن تتحمل الولايات المتحدة تلك الكلفة العالية، وأن تضحي من أجل إصلاح أخطاء نتنياهو والحكومات الإسرائيلية السابقة التي رفضت الأيادي العربية الممتدة بالسلام، وفق معادلة «الأرض مقابل السلام»، التي كانت كفيلة بأن يعم الاستقرار المنطقة، وأن توجه استثماراتها نحو التنمية بدلا من الحروب، لكن حكومات إسرائيل واصلت هدم مساكن الفلسطينيين، واعتقال الشباب، وبناء المستوطنات وتدنيس المقدسات الإسلامية والمسيحية، ورفضت التجاوب مع مبادرة السلام العربية، وكانت النتيجة ما نراه الآن من شلالات الدماء والدمار الشامل.
وعندما قررت حكومة نتنياهو اجتياح قطاع غزة برا، قال الرئيس الأمريكي: «لا تكرروا أخطاءنا في العراق وأفغانستان»، ماذا ستفعلون بعد الاجتياح المكلف والمدمر؟ ولم يجد نتنياهو وحكومته إجابة. فالسيطرة على قطاع غزة والبقاء فيه مستحيلان، وسيتحول إلى فخ كبير للقوات الإسرائيلية، التي سترحل بأسرع مما انسحبت منه، فقد كان الانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 2005 تحت ضربات عمليات غير منظمة، من أفراد ليس لديهم غير القليل جدا من السلاح والتدريب، لكن الوضع الآن مختلف، والفصائل الفلسطينية تعمل باحترافية وقدرات متنامية، ولهذا ستكون الخسائر جسيمة في صفوف الجيش الإسرائيلي المرتبك والخائف.
البعض فكر أو أعاد فكرة التهجير، لكنها قوبلت بكل قوة وصرامة من جانب الرئيس عبد الفتاح السيسي والملك عبد الله بن الحسين، وجاءت النتيجة واضحة في مشروعي القرارين المعروضين من الولايات المتحدة وروسيا في مجلس الأمن، وكل منهما يتضمن بندا صريحا برفض التهجير القسري للسكان، وكانت الرسالة المصرية واضحة «لا ترتكبوا هذه الحماقة، ولا تستفزوا المصريين».
إن الولايات المتحدة تدرك حجم الورطة التي جرّتها عليها إسرائيل وحكوماتها، ولكنها لا يمكن أن تتخلى عنها في تلك المحنة، وأيضا لن تجاريها في الحماقات، وعليها ألا تمدد الحرائق، وأن تطفئها قبل أن تتمدد، لأن الجميع سيخسرون، ولن تجني الحرب الواسعة إلا دمارا شاملا ستكون إسرائيل في قلبه.
هذا يعني أن كل الطرق مسدودة أمام إسرائيل، فلا الحرب ستنقذها، ولا الولايات المتحدة وأوروبا ستتحملان الخسائر لمدة كبيرة، وسوف تضطر في نهاية المطاف إلى الانصياع، وتنفيذ ما نصح به الرئيس عبد الفتاح السيسي بمعالجة جذور الأزمة، وليس أعراضها، والقبول بحل الدولتين، وإلا فالنهاية ستكون مؤلمة للجميع، ولن تنجو إسرائيل من دفع ثمن فادح إذا واصلت إنكار الحقوق الفلسطينية.
("الأهرام") المصرية