في حديثنا اليوم، نود أن نلامس سببًا آخر يحمل على سوء الظن ويفرغ الممارسة الديمقراطية من محتواها ومعناها معًا - وبالتالي يصيرها عبثًا ولهوًا. ومرة ثانية نجدنا ننساق في حديث ربما جاز للبعض أن يصفه بالحديث الساذج، وحقّ للبعض الآخر أن ينعته بالقول المكرّر المعاد الذي يرجعنا إلى المقدّمات والأوليات المعلومة بذاتها.
"العائق السيكولوجي" يحول دون الإقبال على الانخراط في الفعل الديمقراطي في الحياة السياسية العربية
بيد أننا، قبل الرجوع إلى "الأوليات" – أي إلى ما يرى فيه العديدون قولًا مكرّرًا معادًا - نجدنا في حاجة إلى القول، وإلى التذكير الساذج، بأنّ الإشكال في عالمنا العربي يكاد يكون، في الأغلب الأعم من الأحوال، متعلقًا بالبدايات والأوليات. ودرس المنهجية العلمية المعاصرة يعلّمنا أنّ المصدر الأول للخطأ يرجع إلى الاطمئنان إلى "الأوليات " وإلى اعتبار أنّ الأمر فيها قد تم الحسم فيه بصفة نهائية. نعم، ربما قد يجوز القول إنّ الحسم قد تم من جهة المعرفة المجرّدة وليس من جهة صلتنا بها وجوديًا. الأمر غير ذلك في المستوى السيكولوجي، إن الأمر يتعلق بما يسميه الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار "العائق السيكولوجي". إنه عائق باطني، يحمله كلّ منّا في وجدانه، زمن حيث هو كذلك، فإنه ينتصب "عائقًا ابستمولوجيا" لا تتحقق المعرفة إلا بمجاوزته والارتفاع فوقه.
ما هذا "العائق السيكولوجي" الذي يحول دون الإقبال على الانخراط في الفعل الديمقراطي، في الحياة السياسية العربية؟ وكيف استطاع هذا العائق أن يقف في وجه الإنسان العربي فهو يشعر أمامه بالعجز وضعف الحيلة. لا يخلو الأمر عنده، والحال كذلك، من موقف أول هو الانصراف عن العمل السياسي، فهو لا يرى، من يقف هذا الموقف، في المشاركة السياسية سوى مباركة لعبة عبث يقره عقل ولا يقبله منطق. لا جدوى من المشاركة السياسية ما دامت النتيجة تتقرّر سلفًا، وهذا هو الموقف الذي يأخذ به سواد المواطنين العرب في بلدانهم فتكون نسبة العزوف عن المشاركة السياسية على نحو ما نرى من الارتفاع. وموقف ثانٍ، هو حال الشخص الذي يقر الغش والخداع فهو يغدو، عن دراية واقتناع، طرفًا في اللعبة. إنه فعل كل مغامر تحرّكه أطماع مالية وأخرى في معناها، وتلك حال الأقلية القليلة فهو ينحاز إلى جهة "الحمقى والمغفلين" (والعبارة لحكيمنا العربي القديم علي ابن الجوزي)، أو هو، كما يقول شكسبير على لسان مكبث، يروي "حكاية مجنون ملؤها الصخب والعنف".
الاقتراع والتصويت يستلزمان القدرة على المفاضلة والاختيار بين برامج سياسية
يستلزم حديثنا هذا التسليم بحقيقة أولية أخرى تتعلّق بالممارسة الديمقراطية، وقد كان الفعل الانتخابي تعبيرًا عنها. والفعل الانتخابي، أي الاقتراع والتصويت يستلزمان القدرة على المفاضلة والاختيار بين برامج سياسية، برامج تقترح على "الناخب" من قبل جماعات منظّمة تضبط وجودها قوانين معلومة وتقرّها أعراف معلومة، ولتلك الهيئات اسم معلوم هو الأحزاب السياسية. والحزب السياسي (وهذه حقيقة أولية أخرى) نتاج أفرزه الفكر السياسي المعاصر وتقنين للديمقراطية وتشريع عملي للممارسة الديمقراطية. والأصل أنّ الحزب السياسي تعبير عن إرادة وآمال جملة من المواطنين تجمع بينهم وحدة المصالح البعيدة وتترجمها الإيديولوجية التي تنطق باسم الحزب وتسطّر لها البرامج العامة التي يرسمها الحزب ويسعى، بتوسط السلطة التنفيذية (وقد تم امتلاكه لها)، إلى جعلها في موضع البلورة والتنفيذ.
ما القول في الحياة السياسية الحزبية في عالمنا العربي؟ ما القول في الصلة بين الحزب وبين آمال المواطنين وأطماحهم في بلدان ذلك العالم؟ أسئلة مُلحّة، وأخرى ليست أقل إلحاحًا، تستوجب منّا وقفات ضرورية تطرح بدورها أسئلة تنقلنا إلى قضايا العقل والتاريخ والحداثة في العالم العربي.
لقراءة الجزء الأوّل: التعاقد الاجتماعي: "سوء الظن" وأسباب أخرى
(خاص "عروبة 22")