بالنسبة إلى الإدارة الأميركية برئاسة جو بايدن، فإنّ ما يجري في غزّة يشكّل لها "فرصة مزدوجة الأهداف"، لإعادة تثبيت حضورها في الشرق الأوسط من ناحية، وتجيير دعمها غير المحدود لإسرائيل في الصندوق الإنتخابي الأميركي من ناحية أخرى، في ظل معركة "الديمقراطيين" الرئاسية الحامية مع "الجمهوريين" في الأشهر المقبلة. بينما بالنسبة إلى طهران، فهي لم تتأخّر في الاستثمار بالحرب الإسرائيلية على غزّة للإيحاء بأنها تقود المواجهة الفلسطينية على "جبهة الممانعة"، بهدف الإستفادة من المعادلات التسووية التي ستفرزها هذه الحرب في المستقبل.
فما ينبغي التوقّف عنده على هذا الصعيد، بحسب ما ترى مصادر عربية متابعة، هو "مسارعة الإدارة الأميركية إلى تبنّي الرواية الإيرانية الرسمية في نفي مسؤولية طهران عن عملية "طوفان الأقصى"، في وقت لم يبادر فيه النظام الإيراني الذي لطالما رفع لواء "تحرير القدس" إلى اتخاذ أي خطوة عملية لنصرة الفلسطينيين خارج إطار التهويل الكلامي في وجه تل أبيب، والتلويح الإعلامي بدفع ميليشياتها في المنطقة العربية إلى توسيع رقعة الحرب".
وفي المحصلة، تشدد المصادر نفسها عبر "عروبة 22" على أنّ ما يحصل راهنًا بين الجانبين لا يعدو كونه أكثر من "جولة جديدة من جولات "المد والجزر" الأميركي – الإيراني الذي يدفع ثمنه أبناء غزّة من دمهم، وفي حال تمدّده فسيدفع عربٌ آخرون ثمنه أيضًا من دمائهم، حتى تحصد كل من طهران وواشنطن ثمار الحرب بتسوية مرضية لكل منهما على حساب العرب والفلسطينيين والقضية الفلسطينية".
الغزو الأميركي للعراق عام 2003 شرّع الأبواب العربية أمام التمدّد الإيراني
وإذ تعرب عن قناعتها بأنّ "شلال الدم" الفلسطيني اليوم يأتي ضمن سياق مسار تاريخي من تبادل "الخدمات" المباشرة وغير المباشرة بين واشنطن وطهران على مدى السنوات الأخيرة، لا سيما في ضوء الدور الأميركي المركزي في عملية تمكين طهران من تعزيز سطوتها وحضورها في البلدان العربية، منذ اجتياح العراق وتسليمه للإيرانيين إبّان إدارة جورج بوش الإبن، مرورًا بإدارة باراك أوباما التي أسقطت كل "الخطوط الحمر" أمام التمدّد الإيراني في المنطقة، وصولًا إلى إدارة جو بايدن الحالية المتناغمة مع "الأجندة الأوبامية" في التعامل مع طهران.
في هذا المجال، وبينما يُنظر إلى وصول أوباما إلى البيت الأبيض، عام 2009، على أساس أنه "نقطة التحول" المفصلية على مستوى الاستباحة الإيرانية للأمن القومي العربي، لا سيما أنه جرى خلال توليه سدّة "البيت الأبيض" توقيع الإتفاق النووي مع طهران في العام 2015 وما استتبعه من تقوية النفوذ الإيراني في المنطقة، إلا أنّ ما تؤكد عليه المصادر هو أنّ "المسألة بدأت قبل ذلك، مع الزلزال الذي قلب التوازنات الإقليمية، والذي تمثّل بالغزو الأميركي للعراق عام 2003، باعتباره شرّع الأبواب العربية أمام التمدّد الإيراني إلى بلاد الرافدين، وكان المقدّمة لبروز الجماعات المذهبية التي عملت طهران على تجييشها والاستفادة من خدماتها من أجل تعزيز نفوذها في الأوساط الشيعية العربية، من بغداد إلى دمشق وصولًا إلى تباهي المسؤولين الإيرانيين بالسيطرة على 4 عواصم عربية بالتزامن مع الانكفاء الأميركي التكتيكي عن المنطقة".
كان من الواضح أنّ لدى أوباما توجهات تندرج ضمن إطار "عقيدة" متناغمة مع "عقيدة" إيران و"الإسلام السياسي"
ووفق هذا المسار، الذي كانت تسير فيه طهران باتجاه اختراق الساحات العربية، وصل أوباما إلى الرئاسة الأميركية "حيث كان من الواضح أنّ لديه توجهات على مستوى السياسة الخارجية، تندرج ضمن إطار "عقيدة" متناغمة مع "عقيدة" إيران و"الإسلام السياسي" في الشرق الأوسط"، وفق تعبير المصادر، "فساهمت إدارته، بل ودعمت تحوّلات جرت في بعض البلدان العربية تصبّ في خانة تعزيز دور الحركات والجماعات الإسلامية الموالية لطهران أو القريبة منها في الحكم، بالتوازي مع تداعيات إبرامه إتفاقًا نوويًا مع إيران، يسمح بمدّها بالأموال الطائلة التي كانت مُجمّدة، ما ساعدها في عملية تمويل مشروعها التوسّعي ودعم المليشيات والجماعات التي تدور في فلكها في المنطقة".
وضمن هذا السياق، ترى المصادر "من الضروري الإشارة إلى كون طهران تتشارك مع تلك الحركات والجماعات، في مبدأ "تصدير الثورة"، الذي هو أساس الأزمات التي عصفت بنسيج الدول العربية، نظرًا إلى أنها تحت هذا الشعار، أمعنت في التدخّل في شؤون البلدان العربية الداخلية، بذريعة "الدفاع عن فلسطين"، قبل أن تنطلق إلى التركيز على إستغلال الجماعات الشيعية في تلك الدول وتحويلها إلى أذرع عسكرية تقاتل تحت أمرتها".
"اللوبي الإيراني"... واختراق مراكز الفكر وصنع القرار السياسي الغربي من قبل مجموعة من المحلّلين
وفي قراءتها لتحوّلات العلاقات الأميركية - الإيرانية، لا تغفل المصادر الإضاءة على دور "اللوبي الإيراني" في الولايات المتحدة، الذي لعب دورًا مؤثّرًا، خصوصًا في مرحلة المفاوضات حول الإتفاق النووي، وهو ما يتمّ التركيز عليه، في المرحلة الراهنة، في الأوساط الأميركية، خصوصًا بعد ما كشفه تحقيق صحافي، قامت به "إيران إنترناشيونال" و"سيمافور" الأميركية، عن كيفية "اختراق إيران بعض مراكز الفكر وصنع القرار السياسي، من قبل مجموعة من المحلّلين".
وكان ذلك ما سعت إليه طهران منذ منتصف التسعينيات، حين أسّس صادق خرازي، نائب وزير الخارجية الإيراني في ذلك الوقت، هذا "اللوبي" بين عامي 1989 و1996، غير أنّ التحقيق الصحافي، المشار إليه، ركّز على المحلّلين من أبناء الجيل الإيراني الثاني المقيم في الغرب، ممن استطاعوا الوصول إلى مراكز مرموقة، ثم تحوّلوا إلى ما يُعرف بفريق "خطة خبراء إيران"، أو "شبكة الشباب".
ويلفت التقرير إلى أنّ صاحب فكرة "شبكة الشباب"، بداية العام 2014، هو سعيد خطيب زاده، الذي كان يعمل لدى سفارة طهران في برلين، حيث اقترح تشكيل شبكة محلّلين عاملين في مراكز الأبحاث الأميركية والأوروبية، انطلاقًا من القناعة بأنه من خلال دعمهم السياسي تستطيع إيران تعزيز مكانتها ومواقفها على المستوى الدولي. ومن ضمن الأسماء، التي يتم التداول بها في سياق نتائج هذه العملية، يبرز اسم المبعوث الأميركي الخاص السابق لإيران روبرت مالي، الذي جُمّد عن أداء وظيفته منذ بداية تموز الماضي، بسبب ما قيل عن "سوء استخدامه لمعلومات سرية".
أما أبرز الشخصيات المشاركة في هذه العملية، فهي: أريان طبطبائي (باحثة أميركية من أصول إيرانية، تعمل في البنتاغون كرئيسة الفريق المساعد لوزير الدفاع الأميركي للعمليات الخاصة)، دينا أسفندياري (باحثة أميركية من أصول إيرانية ومستشارة رئيسة في "مجموعة الأزمات الدولية)، علي واعظ (مدير برنامج إيران في المجموعة نفسها والمستشار الرئيسي لرئيسها).
استباحة الدم الفلسطيني والعربي على طاولة تسويات مثلّثة الأضلاع أميركية – إيرانية – إسرائيلية
ومن جانبها، كانت مجلة "تابلت" قد تحدثت، عام 2015، عن دور مؤسّس ورئيس المجلس الوطني الإيراني الأميركي (NIAC) تريتا بارسي، مسلطةً الضوء كذلك على أبرز أعضاء هذا اللوبي، مثل، سحر نوروزيان، مستشارة الأمن القومي الأميركي العليا الإيرانية الأصل، بالإضافة إلى توماس بيكرينغ، السفير السابق في إسرائيل، وجون يمبرت، الذي احتجز رهينة من قبل طهران في العام 1979.
واليوم، بالعودة إلى ما يحصل في غزّة، فإنّ كلًا من الظاهر من المشهد وما خفي منه، يقود إلى "معادلة وحيدة" تختصرها المصادر بالقول: "استباحة الدم الفلسطيني والعربي على طاولة تسويات مثلّثة الأضلاع أميركية – إيرانية – إسرائيلية!".
(خاص "عروبة 22")