من الملاحظات المثيرة للانتباه لمن يتابع جريمة الحرب الإسرائيلية المستمرة ضد قطاع غزة هي نفاق عدد كبير من البلدان الأوروبية والغربية.
العديد من المسؤولين الغربيين جاء على عجل إلى فلسطين المحتلة ليس ليطالب إسرائيل بوقف عدوانها المفتوح، ولكن لتأكيد تضامنه معها، وبعد نهاية الزيارة يتحرك بالسيارة إلى رام الله ليقابل رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس «أبو مازن» ويؤكد له أن بلاده تطالب بإدخال المساعدات لغزة وترفض استهداف المدنيين، بل وتطالب بحل الدولتين!!!
لماذا بدأت كلامي بوصف السلوك الأوروبي بالنفاق؟
شخصيًا لم أكن أتخيل أن تكون المشاعر والمواقف الأوروبية والأمريكية شديدة التحيّز بهذا الشكل لإسرائيل.
كنت أتعامل مع عبارة أن إسرائيل هي الولاية رقم ٥٢ في أمريكا باعتبارها مبالغة يقصد بها تصوير مدى الدعم الأمريكي لتل أبيب. لكن اكتشفت أن إسرائيل ربما تكون أهم من بعض الولايات المتحدة، خصوصا بعد أن أطلق جو بايدن عبارته الحاسمة والقاصمة وهي: «لو لم تكن إسرائيل موجودة لاخترعناها». ونعلم أن وزير خارجيته أنتوني بلينكن حينما جاء باكيا إلى إسرائيل قال عبارته التي ستدخل تاريخ هذا الصراع وهي: «جئت إليكم اليوم باعتباري يهوديًا وليس باعتبارى وزيرًا للخارجية الأمريكية»!
ونعرف أن قادة الدول الأوروبية الكبرى خصوصا البريطاني ريشي سوناك والألماني أولاف شولتز والفرنسي إيمانويل ماكرون قد تقاطروا إلى إسرائيل وكأنهم جاءوا إلى رحلة حج دينية «لكي يواسوها في مصابها الجليل ويخففوا عنها الآلام».
هؤلاء القادة جاءوا ليس فقط لمشاطرة المشاعر النبيلة مع الإسرائيليين ولكن ــ وهذا هو الأهم ــ ليعلنوا دعمهم الكامل لها، ليس بالألفاظ فقط ولكن بالأفعال.
أمريكا فتحت خزانتها ومخازن أسلحتها ونشرت قوات ومنظومات دفاع جوي وأرسلت حاملتي طائرات إلى سواحلها لردع أي طرف يفكر في المشاركة في القتال ضد إسرائيل خصوصا إيران أو القوى المؤيدة لها.
الأمريكيون والأوروبيون جاءوا إلى مؤتمر القاهرة للسلام يوم السبت قبل الماضي ليقولوا رسالة موحدة: «نحن مع إسرائيل وندعم حقها الكامل في الدفاع عن النفس ولا بد من إدانة المقاومة الفلسطينية بصورة واضحة، وبسبب ذلك لم يصدر بيان ختامي عن المؤتمر، لكن الفائدة المهمة أنه كشف لنا عن حقيقة المواقف الأوروبية والأمريكية بصورة سافرة.
ظني أن الموقف الأمريكي كان أكثر شجاعة في إعلان موقفه الصريح، في حين أن العديد من البلدان الأوروبية مارست نفاقا رخيصا.. سوف يسأل البعض: وما هو هذا النفاق؟!
الإجابة أن أي مسؤول أوروبي، صغيرا كان أو كبيرا، من الذين زاروا المنطقة منذ عملية «طوفان الأقصى»، ذهبوا بكل قلوبهم وعواطفهم ومشاعرهم إلى إسرائيل للتضامن معها بكل جوارحهم وتقديم كل ما تحتاج إليه.
بعدها ينتقلون إلى رام الله لمقابلة محمود عباس، أو يأتون للقاهرة لمقابلة الرئيس عبدالفتاح السيسي وعمان لمقابلة العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني أو أي عاصمة عربية أخرى. وفي العواصم العربية يحاولون تخفيف انحيازهم الفج بالمطالبة بهدنة إنسانية لإدخال المساعدات الإغاثية وعدم استهداف المدنيين، رغم أنهم قبلها بدقائق كانوا يعلنون بكل صلف أنهم ضد وقف إطلاق النار لأنه سيؤدي إلى أن تعيد فصائل المقاومة تنظيم نفسها. وقد ترجموا ذلك عمليا في استخدام حق الفيتو ضد مشروع القرار الروسي في مجلس الأمن.
حينما يزورنا المسؤولون الأجانب يقولون إنهم لا يزالون يؤيدون حل الدولتين. لكنهم لا يقولون كيف سنطبق حل الدولتين على الأرض، ما داموا يدعمون إسرائيل لتهويد كل الأرض المحتلة؟!
ومن المثير للدهشة أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحينما زار رام الله يوم الثلاثاء الماضي، عقب زيارته لتل أبيب، قال إنه يطالب إسرائيل بألا يتعرض المستوطنون للسكان الفلسطينيين، ولم أسمع أي مسؤول فلسطيني يصحح له الأمر بأن وجود المستوطنين غير شرعي ولا يحق لهم أن يتواجدوا في الضفة الغربية من الأساس.
مرة أخرى عدوان «السيوف الحديدية» الإسرائيلي كشف لكل السذج والبسطاء والمخدوعين العرب حقيقة المواقف الأوروبية والغربية على أرض الواقع.
أتصور أنه صار مطلوبا من كل العرب حينما يقابلون نظراءهم الأوروبيين أن ينظروا في عيونهم، ويقولوا لهم بصريح العبارة: أنتم منحازون.. بل أنتم مشاركون فعليا في العدوان، والشعوب العربية لن تسامحكم مثلما لم تسامح آباءكم وأجدادكم الاستعماريين.
("الشروق") المصرية