لقد ظلّ التناول الدرامي للقضية الفلسطينية، وعلى مدار عقود طويلة من الألم، حبيسًا للبروباغندا السياسية، ورهينًا بالسرديات الدرامية المتجاوزة، التي عجزت عن تخطي ثنائيات الخير والشر، أو البطل والعدو. ونتيجة لذلك، فقد تمّ التركيز على تيمة الفدائية والمقاومة المسلّحة في شقّها العسكري الصرف، أو الدعوة للخندقة السياسية الفجّة للقضية، إرضاءً لأهواء صنّاع القرار في المنطقة.
كما ظلّت صورة الفلسطيني في المشهد الدرامي العربي، متخبّطة بين عقلية الضحية، وما يُصاحبها من بكائيات ولطميات تروّج للفكر الانهزامي، وبين صورة الفلسطيني السوبرمان الذي يملك جسدًا مضادًا للرصاص الصهيوني.
أصبح لزامًا علينا، ونحن نعيش اليوم في أزمنة التشكيك والتخوين والترهيب، أن نتحلّى بالقدر الكافي من الشجاعة الفكرية للإقرار بطبيعة الفشل الذريع في الدفاع عن التراجيديا الفلسطينية دراميًا. إنّ القراءة النقدية للسردية التقليدية في المعالجة السينمائية أو التلفزيونية، لا يُعتبر بأي شكل من الأشكال انتقاصًا من روح المأساة، أو تبخيسًا للمقاومة كحقّ مشروع، وإنما تروم عين الناقد إلى إعادة لقراءة مسببات الفشل، ومساهمة في تسليط الضوء على مكامن الخلل، وسبقت الإشارة أعلاه إلى أنه تمّ تفريغ القضية من بُعدها الإنساني، وحشوها بذخائر سياسية، ومتفجرات أيديولوجية، أو خردة عسكرية.
يجوز لنا القول إنّ محاولات الحشو جاءت كنتيجة حتمية للهزيمة الثقافية والحضارية، إذ إنه بعد تاريخ طويل من النكبات والنكسات والعنتريات الإيديولوجية المبتذلة، ظلّت القضية تراوح مكانها في "الدائرة المفرغة" التي تحدّث عنها الكاتب المصري فرج فودة، مع الأخذ بعين الاعتبار وزن وتأثير عوامل خارجية/عالمية، في تكريس هذا المأزق.
عملت الحكومات العربية في العديد من المحطات، على إنتاج صورة المارد الفلسطيني الذي لا يُقهر، في محاولة منها لتقديم نموذج شعبي لفكرة المخلّص، ذلك الكائن الخارق الذي يموت ويحيا من أجل التكفير عن خطايا السياسي المراوغ، والعسكري المهزوم، والمواطن المغلوب على أمره.
تم الاستيلاء على المأساة الفلسطينية من طرف السياسي والعسكري والمتديّن، وتقديمها كقربان على مذبح الهزيمة، في محاولة مستميتة لتوجيه أنظار الرأي العام عن النكسات المتعاقبة، ورغبة في تشكيل وعي جمعي مزيّف من خلال الإعلاء الوهمي للذات.
الشجاعة الفكرية تحتّم علينا أيضًا البحث عن مسوغات أخلاقية لإصرار الدراما العربية المُمَولة حكوميًا، على الاكتفاء بتقديم القضية الفلسطينية في القوالب الفدائية والبطولية، إذ إنه في عالم يقوم على الدعائية المغرضة، التي تخصّص أذرعًا إعلامية ضخمة للقيام بما يُشبه التطهير الثقافي لذاكرة الشعوب، كان لزامًا على العرب آنذاك، أن يقدّموا نسختهم الخاصة من الحقيقة، والترويج لروايتهم الرسمية كنوع من التعبئة الشعبية العامة، أو تحفيزًا للعقل الجماهيري الذي يحتاج إلى جرعات بروباغندا مركّزة بغاية حفظ ذاكرة الأرض.
حاتم علي وإعادة صياغة صورة الإنسان الفلسطيني
من المتعارف عليه، أنّ المخرج السوري المرحوم حاتم علي، كان يتمتع بحسّ فني عال، ويتقن بشكل كبير صقل المادة الأدبية، وتقديمها على شكل أنماط درامية خارجة عن المألوف.
في هذا السياق، التقط حاتم علي إشارة الفراغ الانساني في تمثلاته العاطفية والأخلاقية، الذي خلّفته المعالجات الدرامية السابقة للمسألة الفلسطينية، حيث عمل على تقديم تحفته التلفزيونية النادرة "التغريبة الفلسطينية" بعد سنوات قليلة من اندلاع انتفاضة الأقصى بداية الألفية، في محاولة منه لأنسنة السياق التاريخي للمأساة الفلسطينية، التي أبى حاتم علي إلّا أن يصفها بالتغريبة، وهو مصطلح يعبّر عن الشعور المتواصل بالوحشة والاغتراب.
يحيلنا المشهد الافتتاحي للمسلسل على مونولوغ "علي" وهو يناظر جثمان "أبو صالح" المسجّى بوقار، حيث تثير رمزية وفاة أحد الآباء المؤسّسين للمقاومة الشعبية، هاجس القلق الذي يتملّكنا جميعًا، حول لحظة موت القضية في الوجدان العربي.
من الملاحظ أنّ المخرج قد سعى إلى تقديم نماذج فلسطينية بشخصيات مركّبة ومتباينة، اختلفت الاختيارات والقرارات الحياتية لهذه الشخوص، وفرّقتها سُبل العيش، لكن ظلّ يجمعها دائمًا سؤال الأرض. على سبيل المثال لا الحصر، نجد أنّ شخصية علي ترمز بقوة إلى تيمة الشتات الفلسطيني. علي الأخ المثقف الذي اختار العلم كوسيلة للمقاومة الناعمة.
يُمثّل علي كل فلسطيني تحدّى المأساة، اختار نوعًا من الهجرة الطوعية من أجل البحث عن وهم الانتماء. إن المتتبع للتغريبة الفلسطينية يلاحظ بالضرورة، أنها عمل مثقل بالرمزية العميقة والمؤلمة أحيانًا.
نتذكّر جميعًا المشهد الذي طالب فيه علي والدته بثمن شراء دفاتر التاريخ والجغرافيا، وفي الوقت الذي احتجّت فيه الأم على طلب ابنها، معتبرةً أنّ العلم هو نوع من أنواع الرفاهية التي لا تناسب فقراء الوطن، أصرّت الأخت الكبرى "خضرة" على أهمية التعلّم وقالت إن الدفاتر أهم من الخبز. لن تفوتنا رمزية التاريخ والجغرافيا هنا، باعتبارهما أولى الأسفار المقدّسة التي يتلوها ضمير الانسان الفلسطيني منذ ولادته.
كرونولوجيا الشتات الفلسطيني بين التهجير وحقّ العودة
ونحن نستحضر اليوم روح حاتم علي كمخرج حمل هموم الوطن العربي الكبير، وحاول ترجمتها إلى حكايات لامست الوجدان القومي من المحيط إلى الخليج، نرى وبما لا يدع مجالًا للشك أنّ هذا المخرج الفذ وبتقديمه للتغريبة الفلسطينية، قد قام بأحد أنبل وأشجع الأعمال الفنية/الفدائية.
لقد أعاد حاتم علي للشخصية الفلسطينية إنسانيتها، ووضعها في سياقها البشري الطبيعي بكل تمثّلاته العاطفية والأخلاقية، وبكل انكساراته ونجاحاته وآماله وأوهامه وشرفه وخبثه ووفائه وخيانته. لقد عملت التغريبة على أنسنة القضية.
يجوز لنا القول أيضًا، إنّ التغريبة هي عمل كنفاني الهوى والهوية. لقد كان نفس غسان كنفاني حاضرًا بقوّة في رمزية الارتباط المقدّس بين الإنسان والأرض. إذ لطالما رأى شهيد الكلمة في أرض فلسطين "رمزًا إنسانيًا متكاملًا".
إنّ اعادة صياغة الحكاية الفلسطينية في صورتها الأولى، وإعادة سرد قصّة الشتات منذ حقبة الانتداب، مرورًا بالثورة الكبرى، ثم التهجير نحو المخيمات، انتهاءً بتسليم مشعل المقاومة إلى الأرواح الفلسطينية الفتية، تفاصيل وإشارات قد جعلت المتفرّج يُعيد اكتشاف المأساة من زاوية إنسانية مجرّدة من الأيديولوجيا والتقارير السياسية والنتائج العسكرية. لقد شاهدنا إنسانًا اجتُث اجتثاثًا من أرضه، فاختار ببساطة أن يقاوم. هذه هي الحكاية.
لم تتوقف جرأة المخرج والمؤلف عند كسر تابوهات السرديات التقليدية للقضية، بل تخطى الأمر ذلك إلى استخدام إحدى أكثر التقنيات الدرامية شجاعة عبر توظيف السخرية السوداء، والتي ظلّت تيمة مُحرّمة دومًا في التعاطي مع المأساة الفلسطينية، باعتبارها نوعًا من أنواع تبخيس الألم. حيث أصرّ المخرج على تقديم بعض من شخوصه في قالب مركّب تقاطعت فيه السخرية الذاتية مع المعاناة.
يقول حاتم علي إنّ السخرية هي شرعنة للخطأ الانساني، ودافع مهم للغفران. لقد شبّه المخرج سخرية شخصياته من الاحتلال وزمرة الساسة الفاسدين، بعملية الاعتراف المسيحي، الذي يُعد من أهم ميكانيزمات التطهر الذاتي من الخطيئة.
لعنة الدياسبورا السامية، من بابل إلى القدس
لقد منح التعامل الحذر للتغريبة الفلسطينية مع تيمة الدين وروايات الشرعية التاريخية، للمتفرّج العربي نوعًا من الحرية والأريحية في الاستمتاع بالعمل الدرامي، دونما الحاجة إلى الاصطفاف خلف انتماء ديني أو سياسي معيّن. غير أنّ القارئ بين سطور التغريبة، سيُلاحظ لا محالة أنّ القصّة ترمز بشكل أو بآخر إلى إرث الشتات، كأنها لعنة حلّت بالشعوب التاريخية لتلك البقعة المضطربة من العالم. فهل يكون التهجير والتقتيل والاستعباد هو القدر الأزلي للأرض الإبراهيمية؟.
(خاص "عروبة 22")