من يتأمّل حجم ونوعية تلك القوات للوهلة الأولى يتصوّر أنّ ثمّة حربًا أمريكية مع الصين في بحرها الجنوبي، أو على الأقل مع إيران في الخليج العربي، وليس مع حركة مقاومة صغيرة العدد ومحدودة العتاد كـ"حماس" التي تواجه أصلًا دولة احتلال مدججة بكل أنواع العتاد، أو مع قطاع غزّة الذي لا تزيد مساحته عن 360 كم، محاصر إسرائيليًا من كل الجبهات، محروم من كل وسائل الحياة من غذاء ودواء ومياه وكهرباء ناهيك عن الاتصالات، دُمّرت أغلب وحداته السكانية وجل بنيته الأساسية، يكاد يتحوّل إلى مقبرة جماعية لم يعد بها مكان لشهداء جدد بعد أن استقبلت نحو عشرة آلاف أغلبهم من النساء والأطفال.
هنا يطفر السؤال المرير: ما الذي تفعله الولايات المتحدة، ما هي الرسالة التي تريد أن تبلغها إلى عالم اليوم؟.
في تصوّري، أنّ الولايات المتحدة باتت عاجزة عن أيّ تصوّر لرسالتها ودورها في العالم، وأنها تعاني تيهًا شديدًا بفعل افتقادها للخيال الاستراتيجي الخلّاق، وهيمنة المجمّع الصناعي العسكري، وتهافت نخبتها السياسية وانفصالها المتنامي عن مزاج شعبها، وغياب القادة من طراز رجال الدولة. بل إنني أقرأ في حفلة جنونها الراهنة ضد غزّة رسالة ضعف لا قوة، فالأمّة التي تبالغ في إظهار قوّتها إنما تود التعمية على شعورها العميق بالضعف والوهن، وبخطر فقدان الهيمنة العالمية لصالح قوى صاعدة.
قد تتحوّل أمريكا إلى أسد جريح يفضّل الاندفاع نحو مصيره المأساوي كبطل ملحمي في أسطورة إغريقية
وهي إذ تفعل ذلك إنما تنظر أسفل قدميها فيزداد اضطرابها وتصبح خطرًا على العالم وعلى نفسها، وهو خطر سيمتد لعقود قادمة، ولن ينتهي قبل أن تعترف بالواقع الجديد، وتقبل بمشاركة الآخرين لها في مسرح القيادة، ولعب أدوار كانت حكرًا عليها في مناطق مختلفة وقطاعات حيوية، فكلّما زاد الإنكار وتأخّر الاعتراف توالت الأزمات وازدادت الخسائر، حيث أنّ الهبوط الاستراتيجي له مسارات وتقاليد، كما أنّ للصعود الاستراتيجي مسارات وتقاليد، كي لا يكون عنيفًا ودمويًا.
لقد ورثت أمريكيا بريطانيا العظمى بعد ثلاثة أرباع القرن من هيمنة إمبراطورية شاملة امتدّت طيلة العصر الفيكتوري (1837 ـ 1901) كانت خلالها سيّدة البحار والمحيطات. تنازلت بريطانيا عن هيلمانها بحكمة أعقاب الحرب الثانية، عندما حرمها عصر التحرّر القومي من مستعمراتها في أربعة أنحاء العالم، ولم يترك لها سوى جسد ضعيف، جغرافيا ربع مليونية من جزر متعدّدة. تنازلت بسلاسة معقولة لم يشبها مغامرات كبيرة سوى إسهامها في العدوان الثلاثي على مصر 1956. أسهم في ذلك أنها كانت تهبط على سلّم مسرح القوة لصالح ربيبتها الأنجلوسكسونية، وأنّ وريثها الشرعي كان من صلبها الحضاري يقينًا، والديني عمومًا، والعرقي غالبا. أما أمريكا فلا تزال تمتلك جسدًا قويًا، قارة غنية بالموارد الطبيعية، نحو أربعين ضعف الجسد البريطاني، لم تُهزم في حرب قط على أرضها. والخوف هنا أن يغطي كبرياء القوة على حكمة التاريخ، فيثير الكثير من التشنّجات والاضطرابات التي تجعل منها أمّة خطرة.
شعوب العالم باتت تنظر إليها كدولة قوية ولكن مارقة، لا يمكن ائتمانها على قيادة النظام العالمي
ففي سياق الجدل النفس حضاري، قد تتحوّل أمريكا إلى أسد جريح، يرفض مغادرة المسرح أو حتى الهبوط بضعة درجات على سلّمه، يفضّل الاندفاع نحو مصيره المأساوي كبطل ملحمي في أسطورة إغريقية.
لقد تبدّى خطر أمريكا واضحًا في أتون الحرب الروسية الأوكرانية، عندما أمسكت بخناق روسيا ودفعتها إلى الحرب، وعندما شجّعت أوكرانيا للاستمرار فيها، دونما هدف واضح الّلهم سوى تورّط روسيا العسكري، تورطًا ممتدًا ينهي احتمالات صعودها من جديد إلى موقع الفاعل الدولي. أمّا في غزّة فتبدو أمريكا أكثر اضطرابًا وعنفًا، إذ لا يفتقد دورها للأخلاقية فقط، بل أيضًا للعقلانية والرشد، فالتدخّل العسكري المباشر فاضح، والهدف السياسي له غير واضح، وما يمثّله من تشويه لصورتها فادح سواء في عيون شعبها الذي تبدى أنّ أغلبيّته ترفضه، أو في عيون شعوب العالم التي باتت تنظر إليها كدولة قوية ولكن مارقة، لا يمكن ائتمانها على قيادة النظام العالمي.
(خاص "عروبة 22")