انحسر الدور الفرنسي سريعًا في عدد من البلدان الأفريقية، وفي منطقة المغرب العربي، وخاصة في بلدان المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا، في ما يشبه "تأثير الدومينو"، وهو التفاعل التسلسلي الذي يبدأ بتغيير صغير يُسبّب الحركة نفسها على جواره في تسلسل خطّي.
من منظور تاريخي، لا يمكن فصل الهيمنة الفرنسية على منطقة المغرب العربي أو تأثيرها على سير الأحداث فيها، عن الهيمنة نفسها في القارة السمراء، وتعود إلى سنة 1624، عندما أنشأت فرنسا أوّل مركز تجاري في بلاد السنغال، لتنطلق شرارة استغلال ونهب الثروات الطبيعية للقارة الأفريقية، وتحوّل الاستغلال إلى وصاية وتحكّم في الأنظمة الحاكمة للدول الأفريقية.
الرغبة في الانعتاق
وبعد سنوات وعقود طويلة، تقهقر الحضور الفرنسي بشكل لافت في هذه البلدان الأفريقية، خصوصًا في ولاية ماكرون، وهو ما اعتبره مراقبون نتيجة حتمية لسياسة الجشع والمصلحية التي وسمت تعامل فرنسا مع هذه دول أفريقيا.
صحيفة الغارديان البريطانية نشرت تقريرًا في مطلع الشهر الجاري رصدت فيه هذه التحوّلات العميقة للعلاقات الأفريقية مع فرنسا، حيث أفادت بأنّ ماكرون حاول حفظ ماء وجه فرنسا لصون نفوذ بلاده في القارة السمراء، لكن بدون فائدة، حتى إنّ عددًا من الدول الأفريقية طلبت خدمات قوات "فاغنر" الروسية للتخلّص من التواجد الفرنسي على أراضيها، وهو ما قامت به كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
ويرى مراقبون أنّ مشكلة العديد من الدول الأفريقية تكمن مع فرنسا تحديدًا بدليل أن كلّ هذه الدول التي طلبت مغادرة القوات الفرنسية من أراضيها لم تطلب ذلك من قوات أوروبية أخرى موجودة بدورها على أراضيها.
رفض النظرة الاستعلائية
ويعلّق الدكتور زهير لعميم، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاضي عياض بمراكش، على الموضوع بقوله لـ"عروبة 22"، إنّ "هناك تحوّلات نوعية في طبيعة العلاقات بين عدد من الدول الأفريقية وفرنسا، حيث على امتداد دول الساحل والصحراء الأفريقيّتين، وحتى على مستوى شمال أفريقيا، مُنيت فرنسا بخيبات وانتكاسات جيو-استراتيجية وجيو-سياسية، امتدّت إلى الفشل الجيو-اقتصادي، من منظور أنّ التواجد الفرنسي خصوصًا في غرب أفريقيا لا يرتبط فقط بوجود سياسي، بل يعني حضورًا اقتصاديًا وماليًا قويًا جدًا تنظر من خلاله فرنسا إلى الهيمنة الاقتصادية باعتبارها محدّدًا للتحكّم في الأنظمة الأفريقية".
وأردف: "هذا المنطق تغيّر، لكن النظرة الاستعلائية الفرنسية لم تتغيّر، رغم أنّ الفاعلين السياسيين الفرنسيين كانوا دائمًا يعتبرون أنّ نظرة فرنسا إلى أفريقيا متغيّرة، وأنّ العلاقات الثنائية مبنية على الشراكة، ولكن على المستوى العملي هناك ترسيخ للتعامل الاستعلائي من طرف فرنسا حيال الأفارقة، وتأسيسًا على هذا المنطلق، شرعت الدول الأفريقية تضيق ذرعًا بالسياسة الفرنسية في أفريقيا التي لا تنظر إلى القارة بمنطق التعاون، ولكن بمنطق استعماري يعتمد على نوع من الوصاية على أنظمتها وشعوبها التي تولّد لديها شعور سلبي، تمثل بطرد السفير الفرنسي من النيجر، ودعوة المجلس العسكري لهذا البلد الأفريقي إلى مغادرة القوات الفرنسية، إضافة الى ما وقع في بوركينافاسو وغينيا ودول أخرى".
لكن من زاوية أخرى، وفق لعميم، "إذا كان هذا الرفض المتزايد من الدول الأفريقية للسياسات الفرنسية يعكس فشل سياسة باريس، فإنه بالمقابل لا يعكس بالضرورة تحرّر القارة من أجندات خارجية وصراعات جيوسياسية دولية في ظل توغّل دول مثل روسيا والصين وأمريكا وإسرائيل في العديد من الدول، ويكفي تأمّل مشاهد رفع الأعلام والهتافات المناصرة لبعض هذه القوى في الدول الثائرة، وهو ما يطرح أكثر من علامة استفهام، ويُظهر أنّ القارة الأفريقية باتت مجالًا للصراع بين القوى الدولية، وبالتالي يجب على القارة السمراء أن تنهض بتنميتها لتحقيق أحلام شعوبها والسعي نحو استقلالية قرارات حاضرها ومستقبلها وتقوية مؤسساتها، والانفتاح على "الأنتلجنسيا الجماعية" الكفيلة بتحقيق ازدهار القارة الواعدة".
وخلص إلى التحذير من أنه "لا يمكن المراهنة على طرد دولة غربية أجنبية، وفتح المجال لدول أخرى لا تنظر إلا بمنطق النفعية ولا ترى في أفريقيا سوى مجال الاستثمار في مواردها البشرية والطاقية".
خفوت دور الحضارة الفرنسية
كذلك، امتدّ انحسار الدور الفرنسي من غرب أفريقيا إلى شمالها، وتحديدًا في منطقة المغرب العربي، حيث ظهرت أزمات دبلوماسية بين فرنسا والمغرب بلغت مستوى النفور الاجتماعي والثقافي من "فرنكوفونية باريس"، فضلاً عن أزمات أخرى بين فرنسا والجزائر، كما أنّ العلاقات بين فرنسا وتونس لم تعُد بالجودة المنشودة.
وعزا الدكتور مولاي هشام معتضد، محلل وأستاذ العلاقات الدولية بكندا، في حديث مع "عروبة 22" أسباب "انحسار التأثير الفرنسي في منطقة شمال أفريقيا إلى عاملين أساسيين: خفوت دور الحضارة الفرنسية نتيجة التحوّلات الجيوسياسية في المنطقة المتوسطية والدولية من جهة؛ وتطوّر فكر مواطن شمال أفريقيا بانفتاحه على حضارات مختلفة وتطوير حسّ النقد الذاتي لتاريخه مع مستعمره القديم الذي هو بالأساس فرنسا".
وأوضح معتضد أنّ "فرنسا استفاقت جد متأخرة في فهم التحوّلات السياسية والسوسيو-اجتماعية التي تعيشها شعوب شمال أفريقيا وتطلّعاتها المستقبلية التي لم تعد تقبل باستفراد فرنسا بتواجدها في فضائها الاستراتيجي بشكل رئيسي وشامل"، مضيفًا: "تاريخ فرنسا السياسي والاقتصادي في أفريقيا الشمالية أنهك بشكل كبير ديناميكيّتها السوسيو-اقتصادية وأرغمها على الانزواء في الثقافة الفرنكوفونية للتدبير التي لا تُعتبر الأكثر فعالية على مستوى التنافسية المالية والتجارية والصناعية، إضافة إلى أنّ فرنسا اليوم، فرنسا الدولة وفرنسا الفكر وفرنسا السياسية، فقدت الكثير من مكتسباتها الاستراتيجية في فضاء شمال أفريقيا، لأنها لم تعد قادرة على مسايرة الديناميكية الصاعدة للشعوب المغاربية، بل إنّ قوّتها الاقتصادية في تراجع كبير وهي باتت غير قادرة حتى على الاستجابة لانتظارات الشعب الفرنسي الذي يعاني الكثير من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية".
ويرى معتضد أنّ "الزمن الفكري والثقافي والسياسي الفرنسي قد انتهى وفقد مكانه ضمن الحسابات الإستراتيجية لمستقبل شمال أفريقيا، لأنّ باريس لم يعد لديها ما تقدّمه لشباب مغاربيين منفتحين على حضارات أكثر قوّة، وشعوب ذات توجهات تحترم اختيارات الغير، وتقدّر مسار تاريخهم وقيم حضارتهم".
وهناك جزئية هامة تطرق إليها الأستاذ الجامعي في هذه السياق، وتساعدنا في قراءة أسباب تراجع شعبية فرنسا لدى دول المنطقة العربية وشمال القارة الأفريقية، مفادها أنّ "القيادة الفرنسية ما زالت تعيش على أوهام الماضي في محاولتها للحفاظ على موازين القوى مع شمال أفريقيا لصالحها، وهو ما عَجّل بتراجع نفوذها الكبير خاصة لدى شباب المنطقة... فهذه القيادة لا تريد تقبل قيمتها الجديدة في فكر شعوب شمال أفريقيا الذي يعتبر الفكر الفرنسي المتجاوز دوليًا على مستوى التنافسية العالمية، أصبح جزءًا من الماضي".
(خاص "عروبة 22")