لنقل إنّ فلسطين ليست متغيّرًا عابرًا في المعادلة العربيّة، بل هي عماد تحتيّ ينطوي على تأويلاتٍ فلسفيةٍ تتعلّق بالسيادة والشّرعية والهويّة والعدالة. لذلك، يصبح التأمّل في مستقبل العرب مرتبطًا برؤيةٍ متكاملةٍ تُفكّك آليات الهيمنة والاحتواء والخيانات الدّاخلية باعتبارها معطًى تاريخيًا ثابتًا. كما يُعيد هذا التأمّل إنتاج سؤال الوجود السياسي في ظلّ نظامٍ دوليّ شرسٍ ومتقلّب الأطوار.
إشكالية تتعلّق بالسيادة الاقتصادية بوصفها بنية مُتحكَّمًا فيها وغير قادرة على تقديم الدعم الحقيقي للغزّيين
إنّ مأساة غزّة تحثّ التأمّل في مسألة الشّرعية والسيادة على إعادة قراءتنا لمفاهيم السّلطة والدّولة الوطنية. لأنّ ذلك لا يُفضي إلى اختبارٍ مألوفٍ لشرعية الأنظمة السياسية العربية، بل يكشف عن أزمةٍ أعمق في بنية السّلطة والدّولة نفسها، حيث تتداخل مفاهيم السيادة الوطنيّة والشّرعية الشّعبية مع علاقات التّبعية والهيمنة الدّولية. فالشّرعية التّي تُبنى على الأمن الشّكلي والاحتواء السياسي تتحوّل إلى شرعيةٍ مفقودةٍ عندما تصطدم برفض المجتمع لموقف النّظام من فلسطين.
بهذا المعنى، تعيد غزّة طرح سؤال فلسفي حول إمكانيّة تحقيق السيّادة السياسية داخل إطار استعماري - عالمي تفرض فيه قوى عظمى قواعد اللعبة. لذا، فإنّ مسألة الشّرعية في العالم العربي لن تعود ممكنةً إلاّ عبر إعادة تأسيس علاقةٍ ذاتيةٍ حرّةٍ مع فلسطين باعتبارها المحور الأخلاقي والسياسي الأساس الذي لا يمكن تجاوزه أو تفكيكه.
يعيش الشباب العربي تحوّلًا قيميًا بخلفيات وعي مختلف
إنّ تجربة غزّة في علاقتها بالسيادة والشرعية، تكشف عن عوْرة النموذج الاقتصادي العربي المرتبط بالرّيع والتّبعية. فتحليل الأزمة في غزّة يُبرز إشكاليةً أعمق تتعلّق بالسيادة الاقتصادية لا بوصفها قدرةً إنتاجية، بل بوصفها بنيةً مُتحكَّمًا فيها وغير قادرة على تقديم الدعم الحقيقي للغزّيين. في المقابل، يظهر اقتصاد غزّة المقاوِم في دلالته الرّمزية، على الرَّغم من القيود والحصار، كأفقٍ لمقاومة الهيمنة ويؤكّد على أنّ التحرّر الاقتصادي لا يمكن فصله عن التحرّر السياسي. من ثمّ، فالدّرس المُستفاد هنا أنّ الاقتصاد السياسي العربي مطالَبٌ بمراجعة مواقفه، واعتبار ما حدث في غزّة ليس أزمةً سياسيةً فقط، بل طغيان منظومةٍ ماديّةٍ عمياء تملك من الحسّ ما يجعلها جبّارة، فقط، أمام الأنظمة الهشّة المتمسّكة بمواقعها الرّيعية. هنا يجب أن نفهم التجربة في غزّة.
في مقابل ذلك، برزت مسألة الهويّة والقيم في هذه التجربة، كمجالٍ لصراع رمزي وانتقالي، يعيش فيه الشباب العربي تحوّلًا قيميًا بخلفيات وعيٍ مختلف، باتوا يوظّفونه في التِّكنولوجيا الرّقمية بحيث أعادوا من خلالها تموْضع الهويّة السياسية، وحوّلوا فلسطين إلى رمزٍ تجاوز حدود القضية الوطنيّة ليعانق قضيّة ضميرٍ كَوْنيّ وممارسةٍ سياسيةٍ تتّسم بالمقاومة والكرامة.
القضية الفلسطينية محور اختبار لإمكانية تشكُّل موقع عربي مستقل في النّظام الدّولي
هنا يمكن أن نقرأ فلسطين "أنثروبولوجيًا" كفضاءٍ رمزي لصراعٍ بين قيم السلطة التّقليدية وقيم التحرّر الديموقراطي، بين سياسات التواطؤ والتنازل وقيم التّضامن والعدالة. فلسطين هنا، ليست موضوعًا فقط؛ بل ميدانٌ للأخلاق السياسية التي تُشكّل أفقًا جديدًا لوعي الشّباب. إذ أصبحت الفرصة أمامهم متأتّيةً وهم يفقدون الثّقة في مواقف الدول العظمى في بناء وعيٍ تاريخيّ جديد، تبرز فيه القضية الفلسطينية كمحور اختبارٍ لإمكانية تشكُّل موقع عربي مستقلّ في النّظام الدّولي متعدّد الأقطاب.
الاختيارات العربية بين التبعية التامّة لمحاور النّفوذ والبحث عن تموضعٍ مستقلٍّ لا يتمّ إلّا بالمرور عبر فلسطين باعتبارها المقياس الأخلاقي والسياسي الذي يعيد رسم حدود السّيادة والحريّة في عالمٍ لا تحكمه إلاّ القوّة.
(خاص "عروبة 22")