واندمج المساران في تنفيذ 3 جرائم حرب كبرى ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، بالتوازي مع انطلاق عملية تطهير عرقي داخلي في الضفة الغربية، تمثّلت، أولًا، بجريمة العقوبات الجماعية ضد 2.3 مليون فلسطيني في القطاع بحرمانهم الماء والكهرباء ومصادر الطاقة والغذاء والدواء، وتشديد الحصار المطبق على القطاع.
وثانياً بجريمة الإبادة الجماعية، عبر قصف همجي بالطائرات والمدفعية ومدافع الدبابات، أودت حتى كتابة هذا المقال بحياة حوالى عشرة آلاف فلسطيني، ومنهم ما لا يقل عن أربعة آلاف طفل أصغرهم عمره يوم واحد، بل أصغرهم أجنة في أرحام أمهاتهم الشهيدات.
وثالثًا جريمة التطهير العرقي، التي تعثّرت خطتها الكبرى بسبب الصمود البطولي لأهل غزّة ورفضهم التطهير العرقي والتهجير مرّة أخرى، وبسبب الموقف المصري الصلب، الذي رأى في تهجير سكان غزّة إلى سيناء خطرًا على أمنه القومي، فلجأ الإسرائيليون إلى الخطة (ب) المتمثّلة في تهجير 1.4 مليون فلسطيني من منازلهم، ومحاولة ترحيل سكان شمال ووسط قطاع غزّة، بما فيها مدينة غزّة، إلى جنوب القطاع، على أمل إيجاد ضغط إرهابي شديد لاحقًا يكسر صمود الفلسطينيين والموقف المصري الرافض للتهجير.
وإذ تقترف إسرائيل، وجيشها المدعوم أميركيًا بالمال والسلاح والمشاركة بالجنود والخبراء والجنرالات، سلسلة من المجازر الوحشية، مدمّرةً 45% من بيوت قطاع غزّة ومؤسساته، وقاتلةً للآلاف ومئات العائلات، فإنها، مثل كل حرب في التاريخ البشري، أفرزت نتائج كثير منها لم يكن متوقعًا، أو مخطّطاً له، من بينها:
أولًا : إعادة القضية الفلسطينية إلى جوهرها الأصلي، الذي نشأ مع قدوم أولى قوافل الحركة الصهيونية إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر، باعتبارها قضية شعب استُبيحت أرضه باستعمار استيطاني إحلالي حاول تقليد أمثاله في بلدان أخرى، لكنه جاء متأخرًا واصطدم بشعب عنيد مصمّم على البقاء في وطنه.
وكان وعد بلفور البريطاني هو الأساس لقيام الكيان الصهيوني، حيث أعطت دولة الاستعمار البريطاني شهادة ووعد الميلاد لإسرائيل في لحظة لم يصل عدد اليهود في فلسطين بالكاد إلى 10% من السكان، لا يملكون سوى 2% من أرض فلسطين، وتجسّد قيامها بارتكاب نكبة كبرى ضد الشعب الفلسطيني وتهجير 70% منه، بعد ارتكاب أكثر من 50 مجزرة وإبادة 520 قرية وبلدة وتجمّعًا سكانيًا.
فكرة "حلّ الدولتين" تُذبح يوميًا.. والشعب الفلسطيني يعود إلى "دولة ديمقراطية واحدة في كل فلسطين التاريخية"
وعلى مدار خمسة وسبعين عامًا بعد النكبة، سادت في العالم، والمنطقة، ولدى فلسطينيين كثيرين قناعتان: الأولى عدم إمكانية تكرار جريمة النكبة في عصر القانون الدولي والحضارة العالمية المزعومة. والثانية إمكانية وجود حل وسط بين الشعب الفلسطيني والحركة الصهيونية وقيام دولة فلسطينية صغيرة على الضفة الغربية وقطاع غزّة، بما فيها القدس، في إطار ما سُمّي "حلّ الدولتين".
وأثبت العدوان على غزّة بُطلان هاتين القناعتين، إذ تحاول إسرائيل تنفيذ نكبة في غزّة أكبر من نكبة عام 1948، بمجازر بالغة الوحشية تبدو معها مجازر دير ياسين والطنطورة وغيرها صغيرة، ومحاولتها تطهير قطاع غزّة عرقيًا وضمّه لإسرائيل، أو فرض ترتيبات فيه تفصله عن الضفة الغربية ومستقبلها، وتنسف فكرة "حلّ الدولتين"، وهي فكرة تُذبح يوميًا بتوسيع النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية واستخدام إرهاب المستوطنين لترحيل سكان من ما يُسمّى منطقة (ج) التي تُمثّل 60% من مساحة الضفة الغربية.
ويعيد ذلك كلّه الشعب الفلسطيني إلى مشروعه التاريخي الأصيل، دولة ديمقراطية واحدة في كل فلسطين التاريخية يتساوى فيها الفلسطينيون واليهود في الحقوق والواجبات، من دون قبول أو تعايش مع الحركة الصهيونية، التي كانت وما زالت جوهر المشكلة القائمة. وبكلمات أخرى، أوضح، فإنّ القناعة تترسّخ بأن الحرية، والسلام والأمن والديمقراطية، لن تتحقّق إلا بتفكيك منظومة الاستعمار الاستيطاني الإحلالي والتخلّص منه لصالح الجميع.
ثانيًا - إنّ التعاطف العابر مع إسرائيل، يُستبدل اليوم بتعاطف دولي جارف وغير مسبوق مع الشعب الفلسطيني وقضيّته العادلة.
ثالثًا - إنّ محاولة نتنياهو وحزبه تهميش القضية الفلسطينية وتصفيتها عبر التطبيع انتهت إلى الفشل الكامل، إذ عادت قضية الشعب الفلسطيني لتتصدّر المشهد باعتبارها العنصر الحاسم في استقرار الشرق الأوسط بكامله، ولم ينجح التطبيع المشين في تصفية قضية فلسطين بل حدث العكس تمامًا.
تهميش كل من تخلّـى عن النضال الوطني التحرّري أو تعايش مع سلوك الاحتلال وأحدث شروخًا في الوحدة الفلسطينية
رابعًا - سيُثبت التاريخ، أنّ العدوان البربري على غزّة، أعاد شحن أجيال فلسطينية بكاملها، بوعي شامل بتاريخ شعبهم وقضيتهم، ورسّخ في قلوبهم إرادة وروح المقاومة والنضال من أجل حريّتهم وحقوقهم.
خامسًا- التهميش الكامل لكل من تخلّى عن فكرة وأهداف النضال الوطني التحرّري، أو تعايش مع سلوك الاحتلال، وأحدث شروخًا في الوحدة الوطنية الفلسطينية.
التضحيات عظيمة، والألم الذي سببته الجرائم الإسرائيلية أكبر من أن يُحتمل، وجرح النكبة الذي أُعيدَ فتحه لن يندمل بعد اليوم بالمسكّنات وأشباه الحلول، لأنّ الشعب الفلسطيني فهم، ومن لم يفهم بعد سيفهم، أنّ المعركة الوجودية في غزّة الأبية تدور على "أن يكون أو لا يكون"، وسيكون.