قصد توضيح هذه الردّة الثقافية العربية، لا ضير من بعض استنطاق للسجل التاريخي لمثل هذه السجالات، فخلال فترة الحرب العالمية الثانية كان هناك عدد من الأسماء التي حاولت إعادة قراءة القيم الحداثية الخيّرة التي انهارت أمام استفحال الأنظمة الاستبدادية والشمولية، وسوف نقتصر هنا على نموذجين مختلفين من حيث التناول والتوجّه السياسي: حنا أرندت وكارل شميث.
مع حنا أرندت، مثّلت فترة النازية لديها نقطة تحوّل من الفلسفة الخالصة أو النظرية إلى الانكباب على العمل السياسي بشكل نقدي، وهو توجّه لفت الانتباه لضرورة القيام بمراجعات خاصة فيما يتعلّق بآليات التحليل المعتادة قبل ظهور الأنظمة الشمولية كالنازية والستالينية.
من خلاصات هذه المراجعات النظرية عند أرندت، أنّه حتى لو كان الجوهر الإيديولوجي هو من يُحدّد التوجّهات السياسية لهذه الأنظمة الشمولية، فإنّ العمل السياسي يبقى حسب حنا أرندت مسؤولية أخلاقية كونية تقوم على أساس الدفاع عن حرية وحقوق، وكذا آدمية، الإنسان أينما وكيفما كان، إذ يزال الإيمان بالقيم والمسؤولية الأخلاقية قائمًا حتى وإن انزاحت الأنظمة نحو توجّهات لا أخلاقية.
الردّة الثقافية تكون بناءً على تجديد وتغيير آليات العمل النقدي إزاء التاريخ الثقافي
نتكلم هنا مع حنا أرندت عن ردّة ثقافية / نقدية عملية وفاعلية على خلاف كارل شميث الذي يمكن القول إنّ مراجعاته أخذت شكلًا معاكسًا، لأنّه تأثّر بهزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وتبعات بنود "معاهدة فرساي" القاسية، وقد يكون هذا المعطى بمثابة الحافز الحقيقي لأطروحاته السياسية، حيث سلك منحى الدفاع عن النظام النازي واعتبره أشبه بثورة تُبَشّر بقدوم نظام قانوني جديد تكون فيه السيطرة السياسية بمثابة كفاح ضروري وحتمي، وقد مارست أفكاره تأثيرًا داخل بعض أروقة الأنظمة السياسية المعاصرة، إذ يربط البعض تنظيراته بتيار "المحافظين الجدد" في أمريكا، مما يعكس ردّة سلبية تخالف نهج المجتمع المفتوح كما صرّح بذلك يومًا كارل بوبر.
النموذجان إذن، حتى وإن اختلفا في طبيعة التوجّهات إلا أنهما يبرزان أنّ الردّة الثقافية تكون بناءً على تجديد وتغيير آليات العمل النقدي والحفري إزاء التاريخ الثقافي بشكل عام. فما الذي جعل البعض ينجر نحو نوع من الاستسهال الخطابي الثقافوي؟
معلوم أنّ الإنسان بشكل عام، يسعى قدر الإمكان إلى الانفتاح على مختلف الثقافات قصد تحقيق تلاقح يسمح بانفتاح آفاق كونية، لكن الإنسان نفسه، هو ظِلٌ لهويته الثقافوية، إذ نصير أمام ازدواجية الرؤية بين الأفق الثقافي في صورته الكونية والأفق الثقافوي (تفسير كل شيء في المجتمع والدولة انطلاقًا من الثقافة السائدة فيها) الذي قد يوازي بشكل تبسيطي الوعي الجمعي في صيغته الانفعالية والحماسية، مما يضفي عليها مسحة استسهالية، فما الذي يعنيه ذلك؟
تبنّي القيم الإنسانية عند البعض هو من باب الضعف الثقافي وغياب البديل
قد يعني ذلك أنّ الفكر الغربي في مخيال البعض فكر مفارق ومحايث في الآن نفسه: مفارق باعتباره نموذجًا إرشاديًا دون أن يكون لنا نصيب في هذا الإرشاد؛ ومحايث بما هو واقع حالنا الذي لم نستطع إيجاد سبيل آخر لمقارعته.
إنّه الفكر المرغوب والمتّهم في الآن نفسه، ما يجعل أمر تبنّي القيم الإنسانية عند البعض هو من باب الضعف الثقافي وغياب البديل، لكن بمجرد ما أن تسمح الفرصة للتعويض أو التخلّص أو التنقيص من هذا النموذج الفكري الغربي تسطو من جديد النطرة الثقافوية التي ترفض الاعتراف بقصورها في تحقيق الندية الثقافية.
توظيف التوجّهات الإيديولوجية السياسية العالمية حتى في أبشع صورها اللاإنسانية، لا يُبرّر الردّة السلبية على الغرب الثقافي، والارتكان بالمقابل إلى زاوية التخلي عن التفاعل النقدي البنّاء، لأنّ الردّة الثقافية أو التشكيك فيما كنا ندعو إليه ونحاضر من أجله، هو انقلاب ذاتي يعمل على خندقة الأنا العربي بسرداب الأنا الثقافوي.
(خاص "عروبة 22")