اقتصاد ومال

ماذا يُحضّر العرب لقمّة الذكاء الاصطناعي في 2024؟

شهدت بداية شهر تشرين الثاني/نوفمبر الحالي عدة أحداث متعلّقة بملف الذكاء الاصطناعي، حيث وقعت جريمة خطيرة اهتزّ لها الرأي العام في الولايات المتحدة، تمثّلت في انتهاك خصوصية تلميذات من مدرسة ثانوية ظهرن عاريات في موقع "يوتيوب" وكان وراء تلك الجريمة برنامج ذكاء اصطناعي. كما اكتشف باحث بلجيكي هو لورون ألكسندر صاحب كتاب "حرب الذكاءات في عصر Chat GPT" (2023) أنّ برنامج "ChatGPT 4" توقّع محتوى وعنوان كتابه القادم وأعطاه ملخّصًا دقيقًا عنه، إلى درجة تعبير الكاتب نفسه عن حالة حيرة وذهول من هول ما اطّلع عليه.

ماذا يُحضّر العرب لقمّة الذكاء الاصطناعي في 2024؟

كانت بداية الشهر نفسه حافلة بالأحداث السياسية المتعلّقة بمستقبل الذكاء الاصطناعي (AI)، ومن ذلك مثلًا، أنّ الرئيس الأمريكي جو بايدن أصدر مرسومًا رئاسيًا لضبط السلامة والأمن والموثوقية المتعلّقة بالذكاء الاصطناعي من أكثر من 100 صفحة؛ أما في بريطانيا، فقد انعقدت أوّل قمّة دولية متعددة الأطراف حول السلامة المتعلّقة بالذكاء الاصطناعي، وجمعت 24 دولة وكان العرب حاضرين في القمّة من خلال المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.

مرسوم بايدن وقمّة بريطانيا، هما استجابة سريعة من أكثر الحكومات تأثيرًا في العالم للتفكير في التحدي الحضاري الذي يحدثه التغيّر التكنولوجي الهائل والمقلق لثورة الذكاء الاصطناعي. وواضح أنّ البلدان العربية الرائدة من مجلس التعاون الخليجي، لديها فرصة للمساهمة في الاستجابة للتحديات التي تطرحها هذه التغيّرات التكنولوجية المستجدة في قمّة الأطراف القادمة في 2024 حول الذكاء الاصطناعي.

أثار صدور المرسوم الأمريكي ومخرجات القمّة العالمية في بريطانيا حول الذكاء الاصطناعي ردود أفعال متباينة بين الترحيب والتفاؤل، وبين الحذر وإثارة المزيد من المخاوف من العواقب التي تترتّب عن هذه القرارات الحكومية المتعلّقة بمستقبل التقنية المستجدة للذكاء الاصطناعي.

القرار الرئاسي الأمريكي الأخير يُفوّض الوكالات الحكومية القيام بجملة من الإجراءات للحدّ من المخاطر والتهديدات التي قد يتسبّب فيها الذكاء الاصطناعي نتيجة استخدام البنيات التحتية الحساسة البيولوجية والإشعاعية والسبرانية والمواد الخطرة. وبناءً عليه، سوف تطلب الحكومة من الشركات التكنولوجية الوازنة أن تعرض نماذجها للمراجعة الحكومية للتأكد من وجود معايير الأمان والسلامة قبل أن يتم استخدامها من قبل الجمهور.

بين المؤيّدين للتقييد الحكومي والمدافعين عن الحرية الإبداعية، التحدي يكمن في الموازنة بين السلامة والإبداع

كما ستحرص الحكومة الأمريكية على احترام معايير العدالة الاجتماعية حتى لا تتعرّض المجموعات القائمة على الهوية أصلًا لمزيد من التمييز نتيجة استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي التي قد تكرّر الممارسات التمييزية نفسها في ميادين العمل والصحة والإسكان، وستحرص الحكومة على حماية حقوق الملكية الفكرية وضمان المنافسة النزيهة وحماية الخصوصية. كما احتوى المرسوم الأمريكي على توجيهات لتسهيل دخول المهارات العالية الكفاءة إلى البلاد مما سيتسبّب في هجرة مزيد من الكفاءات من خارج أمريكا، الأمر الذي سينعكس على قدرات البلدان المختلفة، ومنها البلدان العربية الفقيرة والمتوسطة التي تعرف أساسًا موجات لهجرة ذوي المهارات العالية إلى الغرب.

أثار مرسوم بايدن أيضًا حفيظة النقاد المدافعين عن حرية الأسواق والشركات في الولايات المتحدة من أنّ القرار سيخلق قيودًا حكومية جديدة قد تحد من التنافسية في القطاع التكنولوجي الناشئ وتقيّد دخول شركات ناشئة جديدة وترسّخ هيمنة الشركات الكبيرة الحالية في القطاع، وعِوَض أن يخلق التشريع الجديد قواعد بسيطة واضحة لحكامة التقنية المستجدة، فإنه سيضر هذه الصناعة انطلاقًا من مبدأ الحذر الشديد المسبق على انعكاسات مستقبلية متخيّلة لمخاطر محتملة وليست مؤكدة.

ونظرًا للتأثيرات الاقتصادية الإيجابية للذكاء الاصطناعي على رفع الإنتاجية والنمو الاقتصادي ومنافعه على جميع القطاعات وجميع المستهلكين، كتحسين خدمات القطاع الصحي الحكومي على سبيل المثال، فإنّ المتحفّظين يقولون إنّ القرار الرئاسي الجديد سيُقيّد الإنتاجية ويحرم الجمهور والاقتصاد من منافع التقنية الجديدة التي نشهدها حاليًا، حيث سيضع المرسوم الجديد تفاصيل ضبط قطاع الذكاء الاصطناعي في يد بيروقراطيين لا يفقهون في شؤون التكنولوجيا وليس لديهم المصلحة في تطويرها.

بالنتيجة، لو أخذنا بعين الاعتبار آراء المؤيّدين للتقييد الحكومي للذكاء الاصطناعي وآراء المدافعين عن الحرية الإبداعية والتجارية، فإنّ التحدي الأساسي يكمن في الموازنة بين السلامة والإبداع.

وعليه يلزم أن تتحلّى حوكمة الذكاء الاصطناعي بروح المرونة والتعاونية والترابطية، كما ينبغي عليها أن تنطلق من مقاربة حوكمة حلول قائمة على سياسة مخاطر تنطلق من الأسفل إلى الأعلى وليس العكس، سياسات مخاطر تركّز على مخرجات النظام وليس على مدخلاته أو تصميمه كما كتب الخبير الأمريكي آدم تييرير (Adam Thierer) في مقاله الأخير، وهو صاحب كتاب مرجعي في الموضوع، عنوانه "التجديد دون ترخيص"، حيث يُحاجج في عمله هذا أنّ كثرة الرّخص تعيق التطوّر التكنولوجي.

إحداث منظّمة عربية - أفريقية للذكاء الاصطناعي توازن بين الأمن القومي والنمو والتنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان

الحكومات العربية الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي التي شاركت في القمّة العالمية سالفة الذكر أعلاه، ستلعب دورًا مهمًا في صياغة الحوكمة العالمية مستقبلًا من خلال المشاركة في القمم القادمة التي ستكون بمثابة قمّة أطراف، مثل قمة كوب 28، كما ستكون فرصة لإعادة تصميم سياسات عربية للابتكار مرحّبة بريادة الأعمال في الخوارزميات والاستثمار الخاص في هذا القطاع.

نزعم أنّ التواضع والحكمة من بين القيم الأساسية المطلوبة لدى الساسة وأصحاب القرار المتعلّق بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، قصد تحقيق التوازن بين مدخلات السلامة والأمان للحد من الأخطار التي تنتج عن الاستخدامات الإجرامية والتخريبية للتكنولوجيا الجديدة، وبين المخرجات الاقتصادية التي ترفع الإنتاجية وتحسّن الخدمات للمواطن في البلدان العربية الذي يعاني من تدني جودة الخدمات الحكومية والخاصة على حد سواء.

وبعد القمة السعودية - الأفريقية الأخيرة، يمكن التفكير من الآن في الاشتغال على إحداث منظّمة عربية - أفريقية للذكاء الاصطناعي تضم القادة الحكوميين وقادة الأعمال والخبراء وقادة المجتمع المدني وكل المهتمين من أصحاب المصلحة للتداول وتصميم سياسات تشاركية تعاونية، توازن بين متطلّبات الأمن القومي العربي - الأفريقي ومطالب الإبداع والنمو الاقتصادي والتنمية التي تحتاجها المنطقة العربية والأفريقية، وكذاك متطلّبات دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن