وجهات نظر

٦ و ٧ أكتوبر.. ما أبعد الليلة عن البارحة!

عرضتُ في المقالة السابقة أوجه الشبه العديدة بين ٦ تشرين الأول/أكتوبر ١٩٧٣ و٧ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢٣، وركّزت من بينها على التطابق بين الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل في الحالتين، واليوم أركّز على الفارق الأساسي بين الحدثين المفصليّين وهو الموقف العربي منهما، فبينما مثّل ٦ أكتوبر معادلةً نموذجيةً للأمن القومي العربي لا يمكننا الآن بأي معيار الحديث عن "موقف عربي" فاعل من الجريمة الإسرائيلية التي تجاوزت الشهر عمرًا بأيام عند كتابة هذه المقالة، وعندما أشير إلى غياب لـ"موقف عربي"، فإنني أعلم بوجود تصريحات دبلوماسية هنا وهناك من هذه الدولة العربية أو تلك، بعضها جيّد وبعضها الآخر خشبي، وقرارات من القمة العربية-الإسلامية الأخيرة، لكن هذه التصريحات والقرارات بحلوها ومرها لا يجمعها ناظم واحد، ناهيك بأن تكون مؤثّرة، ولنبدأ القصة من أولها.

٦ و ٧ أكتوبر.. ما أبعد الليلة عن البارحة!

في أعقاب الهزيمة القاسية أمام القوات الإسرائيلية في حزيران/يونيو١٩٦٧ بدا وكأنّ النضال العربي بسبيله إلى الدخول في نفق طويل مظلم قد يمتد حقبة تاريخية بأكملها، غير أنّ رفض الشعب المصري بل وشعوب الأمة العربية عامة للهزيمة، والتمسّك بقيادة عبد الناصر مثّل نقطة تحوّل تاريخية، فبدأ من فوره عملية إعادة البناء العسكري، وعلى نحوٍ مواز بدأت حركة عربية بهدف لمّ الشمل العربي، وكان الاستقطاب قبل عدوان ١٩٦٧ بين المعسكرين الثوري والمحافظ على أشدّه وبالذات حول الثورة اليمنية حيث كانت مصر تدعمها بقوات مسلحة وصلت في وقت من الأوقات لقرابة ٧٠ ألف جندي، بينما كانت السعودية تدعم معسكر الملكيين.

وعندما وقع العدوان بدا أنّ هذا الاستقطاب هو العقبة الكؤود في سبيل انعقاد قمة عربية لتبني موقف عربي موحّد، وكان محمد أحمد محجوب رئيس وزراء السودان آنذاك يسعى جاهدًا لعقدها، غير أنّ جهوده كُلّلت بالنجاح، وحضر كل من عبد الناصر وفيصل قمّة الخرطوم التي مثّلت فعالياتها نموذجًا رفيعًا لمعادلة الأمن القومي العربي، فقد تمّت إزاحة التناقضات العربيبة البينية إلى الخلف، وعلى رأسها التناقض المصري-السعودي حول اليمن، وتم التوصل إلى استراتيجية سياسية مشتركة (اللاءات الثلاث)، وكذلك إلى دعم مادي لدول المواجهة، قدّمته الكويت والسعودية والمملكة الليبية، ساعد هذه الدول على إعادة البناء العسكري، ومكّن مصر من خوض حرب الاستنزاف لسنوات سبقت حرب تشرين الأول/أكتوبر١٩٧٣، ومكّن مصر وسوريا من دخول هذه الحرب بقيادة موحّدة وخطّة مشتركة بما أفضى إلى تحقيق أكبر إنجاز عسكري عربي في تاريخ المواجهات العسكرية العربية-الإسرائيلية.

بينما مثّلت حرب أكتوبر١٩٧٣ ذروة معادلة الأمن القومي العربي، تجري المعركة الحالية في سياق مختلف تمامًا

وهكذا جسّدت الحرب ذروة معادلة الأمن القومي العربي بالتضامن بين الدول العربية المحافظة والراديكالية في وجه مصدر التهديد المشترك، ناهيك بمشاركة قوات من ٩ دول عربية على الجبهتين المصرية والسورية واستخدام سلاح النفط في المعركة، وهو ما جعل أحد التقديرات الاستراتيجية الغربية يذهب إلى أنّ العرب قد باتوا القوة السادسة في العالم.

ما أبعد الليلة عن البارحة!، فبينما مثّلت حرب تشرين الأول/أكتوبر١٩٧٣ ذروة معادلة الأمن القومي العربي، تجري المعركة الحالية في سياق مختلف تمامًا، فلا يوجد اتفاق أصلًا حول عملية "طوفان الأقصى" على نحو يذكّرنا بالمواقف العربية المتباينة من عدوان إسرائيل على لبنان ٢٠٠٦، وهكذا سيطرت على سبيل المثال مسألة إصرار البعض على إدانة قتل المدنيين من الجانبين، ولا بأس بإدانة قتل المدنيين عمومًا، بشرط أن تكون هناك أدلة ثابتة تبيّن الضحايا المدنيين من الجانب الإسرائيلي ومسؤولية قتلهم، خاصة في ظل الأكاذيب التي ما زال بعض الصهاينة يصرّون عليها كذبح الأطفال واغتصاب الإناث رغم غياب أي دليل، ورغم التراجع عنها من قِبَل من روّجوا لها وفي مقدّمتهم الرئيس الأمريكي، وكذلك في ظل عدم التناسب الهائل بين استخدام القوة من الجانبين، وأيضًا بشرط التأكيد على موقع الإرهاب من تأسيس الدولة الصهيونية التي كانت الآليات الإرهابية التي دفع الشعب الفلسطيني ثمنًا باهظًا لها أساسية في نشأتها باعتراف المنصفين من المؤرّخين الإسرائيليين.

سوف يُحسب للمقاومة أنّ العبء العسكري للمواجهة وقع على عاتقها وحدها

ومن ناحية أخرى هناك التباين الواضح في علاقات الدول العربية مع إسرائيل ما بين دول أقامت علاقات معها في إطار تسوية الأوضاع التي ترتّبت على عدوان ١٩٦٧ كمصر والأردن، ودول أُكرهت على إقامة علاقات مع إسرائيل بشكل أو آخر كلبنان في ظل اتفاق ١٩٨٣، وموريتانيا التي أقامت هذه العلاقات في ١٩٩٨، ويلاحظ أنّ هذا النمط من التطبيع قد أُجهض إما بسرعة كالحالة اللبنانية، أو في أول فرصة سنحت لذلك بمناسبة العدوان الإسرائيلي على غزّة في أواخر ٢٠٠٨ أوائل ٢٠٠٩ في الحالة الموريتانية، وأخيرًا دول أقامت علاقات مع إسرائيل اعتبارًا من٢٠٢٠ بغض النظر عن القضية الفلسطينية، وقد أثّر هذا التباين دون شك على وحدة الموقف العربي وإضعافه بالنظر إلى أنّ أغلبية الدول العربية ما زالت تتمسّك برفض التطبيع، بل وتتشدّد في ذلك.

وهكذا فإنه بينما قُدر لمصر وسوريا أن تخوضا حربهما في١٩٧٣ ضد إسرائيل في ظل دعم عربي غير مسبوق، تواجه فصائل المقاومة في غزّة إسرائيل دون دعم عسكري من أي دولة عربية، ولا تتلقى سوى دعم غير مباشر من المقاومة اللبنانية، وبعض الدعم الدبلوماسي والإنساني من عدد من الدول العربية والإسلامية وغيرها من دول العالم، وسوف يُحسب للمقاومة أنّ العبء العسكري للمواجهة وقع على عاتقها وحدها على النقيض تمامًا من خبرة تشرين الأول/أكتوبر ١٩٧٣، غير أنه يكفيها أنها دشنت نقطة تحوّل تاريخية في الصراع بدأنا بالفعل نلمس آثارها وبالذات في إسرائيل وعلى صعيد الرأي العام العالمي، وكذلك على صعيد مواقف بعض الدول في أمريكا اللاتينية بل وأوروبا.

المجد للمقاومة والنصر الأكيد بإذن الله.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن