اقتصاد ومال

قناة السويس.. من الحفر والسرقة إلى التأميم (2/2)نابليون ودزرائيلي ونوبار.. سرقة القناة تبرر التأميم

عندما صعد الخديوي إسماعيل لقمة الحكم عام 1863 بعد وفاة عمّه محمد سعيد باشا، حاول جاهدًا معالجة الكوارث التي خلّفها عمّه في صورة الامتيازات التي قدّمها بلا حساب للشركة وللمحتال ديليسبس، وتفاوض مع الشركة لاستعادة الأراضي المجانية التي لا تحتاجها، ولاستعادة ترعة المياه العذبة لمصر، ولإلغاء السخرة نظرًا لتأثيرها الخطير المتمثّل في تفريغ الريف من قسم كبير من الفلاحين، والإضرار بالزراعة المصرية التي كانت تسهم بالغالبية العظمى من الناتج ومن الصادرات السلعية.

قناة السويس.. من الحفر والسرقة إلى التأميم (2/2)
نابليون ودزرائيلي ونوبار.. سرقة القناة تبرر التأميم

كان فرمان 5 يناير/كانون الثاني 1856 الصادر عن محمد سعيد باشا والي مصر قبل الخديوي إسماعيل، قد جعل من نابليون الثالث إمبراطور فرنسا حكمًا في الخلافات التي يمكن أن تنشأ بين مصر والشركة.

وعندما أراد الخديوي اسماعيل استعادة الأراضي التي مُنحت مجانًا للشركة ولا تحتاجها واستعادة ترعة المياه العذبة وإلغاء السخرة، قام نابليون الثالث بالتحكيم وحكم على مصر بدفع مبلغ 38 مليون فرنك فرنسي مقابل إلغاء السخرة وتنازل الشركة عن مطالبة الحكومة المصرية بتوريد العمال.

ودفع 16 مليون فرنك نظير تنازل الشركة للحكومة المصرية عن كل حق في ترعة المياه العذبة (لم تكن الشركة قد حفرت من تلك الترعة سوى المسافة من وادي الطميلات حتى بحيرة التمساح، ولم تكن قد كلّفتها حتى وفقًا لتقديراتها أكثر من 10 ملايين فرنك)، على أن تكمل الحكومة المصرية حفر الترعة من القاهرة حتى وادي الطميلات على نفقتها الخاصة، مع احتفاظ الشركة بحقها في أن تأخذ مقدارًا من المياه العذبة من الترعة يوميًا بصورة مجانية حتى يتم الانتهاء من حفر قناة السويس، وإعفاء سفن الشركة التي تمر في الترعة من أي رسوم. كما حكم بأن تدفع مصر للشركة 30 مليون فرنك مقابل إعادة 600 كيلومتر مربع من الأراضي التي حصلت عليها مجانًا ولا يحتاج إليها المشروع.

وبذلك بلغ مجموع الغرامات التي حكم بها نابليون الثالث على مصر 84 مليون فرنك.  لقد تصرّف ذلك الإمبراطور وحكم بشكل يجعله مجرد زعيم لعصابة دنيئة من قطّاع الطرق النهابين.

وقد عاونه في ذلك النهب "نوبار" باشا وزير إسماعيل الذي أوفده للتفاوض في باريس والذي لم يكن أمينًا على مصالح مصر، بل خائنًا لها سواء بتعاونه الدائم مع الإنجليز أو بتفريطه في مصالح مصر أثناء التفاوض مع الفرنسيين. لكن الخديوي إسماعيل رغم حسن نواياه هو المسؤول أولًا وأخيرًا لأنه أساء اختيار رجال دولته.

إضافة لذلك، فإنّ مصر دفعت 10 ملايين فرنك للشركة مقابل استعادة أراضي تفتيش وادي الطميلات التي اشترتها من إلهامي باشا بعشر ذلك الثمن.

تكاليف القناة والسمسرة والغرامات.. قصة نهب

بلغت تكاليف إنشاء قناة السويس حتى افتتاحها للملاحة نحو 451,7 مليون فرنك فرنسي أي أقلّ من 18 مليون جنيه مصري، تحمّلت مصر منها نحو 16,8 مليون جنيه عبارة عن 3,406 مليون جنيه قيمة 44% من أسهم القناة، و 1,2 مليون جنيه نفقات إنشاء الترعة العذبة، و 5,814 مليون جنيه فوائد ونفقات سمسرة وتحكيم، 1,2 مليون جنيه تعويضات إضافية للشركة تم إقرارها في 1869، و 1,4 مليون جنيه نفقات حفلات افتتاح القناة، أي أنّ الشركة لم تتحمّل سوى 1,2 مليون جنيه تعادل 7,1% من تكاليف إنشاء القناة، وتحمّلت مصر 92,9% من تكاليف إنشائها، فضلًا عن تكلفة قيمة العمل الذي قُدّم مجانًا للشركة لمدة 9 سنوات وقيمة الأرض التي مُنحت للشركة مجانًا.

بلغت قيمة الفوائد والسمسرة والتحكيم 5,8 مليون جنيه، أي ما يعادل 75,1% من قيمة أسهم الشركة كلّها

وعندما تتأمل رأسمال وتكلفة إنشاء القناة تذهلك التكلفة التي نشأت عن النصب والاحتيال والسفه. فالقيمة الإجمالية لأسهم الشركة كانت 200 مليون فرنك أي ما يعادل نحو 7,72 مليون جنيه.

وكان عدد أسهم الشركة 400 ألف سهم، قيمة كل منها 500 فرنك فرنسي (19,29 جنيه)، منها 176602 سهمًا لمصر، قيمتها 88,3 مليون فرنك تعادل نحو 3,406 مليون جنيه توازي 44% من رأسمال الشركة.

بينما بلغت قيمة الفوائد والسمسرة والتحكيم 5,8 مليون جنيه، أي ما يعادل 75,1% من قيمة أسهم الشركة كلّها، مما يعكس احتيال الجهات المقرضة (البنوك الأوروبية)، والجهات التي قامت بالتحكيم (فرنسا وإمبراطورها)، على مصر وحكّامها. أما تكلفة حفل الافتتاح التي بلغت 1,4 مليون جنيه فهي تعادل حوالى 18,1% من قيمة أسهم الشركة كلّها وهو سفه بلا حدود بالفعل ويتحمّل مسؤوليته الخديوي إسماعيل.

بريطانيا تسرق القناة بالتواطؤ مع نوبار والمفتش

أجبرت الديون الخارجية الخديوي إسماعيل على بيع حصّة مصر في قناة السويس في نوفمبر 1875 في صفقة تواطأ فيها وزير خارجيته الخائن نوبار مع الإنجليز بالتعاون مع إسماعيل صديق أو إسماعيل المفتش.

وقامت بريطانيا وتحديدًا رئيس وزرائها اليهودي دزرائيلي بالتنسيق مع بنك روتشيلد المملوك لعائلة روتشيلد الصهيونية بشراء حصّة مصر بثمن بخس هو 100 مليون فرنك (أقل من 4 ملايين جنيه مصري)، وحلّت محلّ مصر في ملكية شركة قناة السويس.

والكوميديا السوداء أنّ تلك الأسهم كانت محرومة من الأرباح حتى عام 1894 وفقًا لاتفاق عام 1869 بين مصر وديليسبس، وتعويضًا لبريطانيا التي اشترت الأسهم عن ذلك الحرمان تقرّر أن تحصل على نسبة 5% من قيمة صفقة البيع سنويًا حتى عام 1894، أي أنّ مصر أعادت لبريطانيا كل ما دفعته ثمنًا لشراء أسهمها في القناة!

ورغم ذلك استمرت ديون مصر في التفاقم وأجبرت الدول والبنوك الدائنة الخديوي إسماعيل على إنشاء صندوق الدين الذي حوّلت إليه الإيرادات العامة المصرية وتولى إدارته مندوبو الدول الدائنة الذين أداروا مالية مصر لنزح تلك الإيرادات لسداد وخدمة الديون الخارجية المصرية.

بدأت عملية اصطياد الخديوي إسماعيل عبر توريطه في الديون والنصب عليه 

ومنعت مصر من تخفيض الضرائب حتى لا تنخفض الإيرادات العامة التي ينزحونها. وفي 1876 بلغت الديون الخارجية المصرية 91 مليون جنيه، والفائدة السنوية عليها 7%، وتلى ذلك في العام نفسه فرض الرقابة الثنائية الإنجليزية والفرنسية على مالية مصر. وحدثت توترات عديدة بين الخديوي إسماعيل من جهة وديليسبس وفرنسا وإنجلترا وعملائهم مثل نوبار ورياض من جهة أخرى.

وتحت ضغوط فرنسا وبريطانيا تم إجبار الخديوي إسماعيل على تشكيل وزارة يرأسها الخائن نوبار وتضم وزيرين أوروبيين للمالية والأشغال العامة. وكبّلت تلك الوزارة مصر بقرض جديد قيمته 8,5 مليون جنيه، لم يصل منه لمصر سوى أقل من 6 ملايين جنيه، والباقي سمسرة. وتلك السمسرة هي في حقيقتها سرقة فجة ودنيئة.

طموحات إسماعيل تعجّل باصطياد بريطانيا له

حاول اسماعيل الاقتراب من الحركة الوطنية المعادية لقوى الاستدمار الأوروبي ولصوصه. وتعاطف مع انفجار الضباط ضد نوبار الذي حاول تقزيم الجيش فناله منهم ضرب مبرح. وقام الخديوي إسماعيل فعلًا بإقالة وزارة الخائن نوبار وشكّل وزارة يرأسها ابنه محمد توفيق، ومن بعدها وزارة شريف باشا وهو رجل معتدل مما أثار حفيظة إمبراطورية الشر البريطانية التي استخدمت نفوذها لدى الدولة العثمانية المريضة لعزل الخديوي إسماعيل وتولية ابنه الضعيف محمد توفيق الحكم بدلًا منه.

وكان إسماعيل قد حاول فرض سيادة مصر على مناطق منابع النيل، فمد نفوذ مصر حتى أوغندا. وقد استنفرت تلك المحاولة للتمدّد الجغرافي حنق بريطانيا إزاء التوسّع المصري في مناطق كانت تريد هي احتلالها فبدأت عملية اصطياد الخديوي إسماعيل عبر توريطه في الديون والنصب عليه في شراء أسهم مصر في قناة السويس إلى أن وصل إلى العجز عن الوفاء بالتزامات مصر الخارجية من أقساط وفوائد لديونها الخارجية وتم التحكم الأوروبي وتحديدًا البريطاني والفرنسي في مالية واقتصاد مصر مما دفع إسماعيل للاقتراب بصورة متأخرة للغاية من الحركة الوطنية المصرية المطالِبة بالإصلاح السياسي والدستور ووقف ذلك التدخل الأجنبي.

ولقطع الطريق على أي تحالف وطني بين الخديوي إسماعيل ورموز الحركة الوطنية والإصلاحية، تآمرت بريطانيا مع الدولة العثمانية المتهالكة لعزل الخديوي إسماعيل. وصدر فرمان العزل في يونيو 1879، وتم الإتيان بنجله الضعيف محمد توفيق التابع لبريطانيا صاحبة الفضل في تصعيده للسلطة. وقام المذكور ببيع حصة مصر في أرباح قناة السويس (نسبة الـ15% من صافي أرباح الشركة) نظير مبلغ تافه قدره 22 مليون فرنك، أي أقل من 850 ألف جنيه فقط عام 1880.

كل ملابسات حفر القناة وسرقتها بكل سبل الاحتيال واللصوصية والخيانة والاستغفال، تبرّر التأميم التاريخي 

وبذلك صارت مصر من خلال الألاعيب الاستدمارية، غريبة عن قناتها التي حُفرت على أرضها وبأيدي مليون من عمالها الذين مات منهم 120 ألف عامل خلال سنوات الإنشاء دون أن يتم دفع أي تعويض لهم!

وعندما اصطدم "توفيق" بالثورة العرابية عجّلت بريطانيا بافتعال الذرائع السمجة بعد حادثة شجار الحمَّار والمالطي وما ترتب عليها من أحداث وصدامات بين أهل الإسكندرية والأجانب، واتخذتها بريطانيا مبررًا مفتعلًا لجريمتها الكبرى أي غزو واحتلال مصر ونهبها بشكل منظّم واستغلال البشر والموارد والسوق فيها لصالح الإمبراطورية الاستدمارية البريطانية لتحقيق حلمها القديم الذي فشلت في تحقيقه في حملة فريزر الفاشلة عام 1807 التي تم سحقها في رشيد والحمادية واستسلمت بشكل ذليل في ذلك العام.

ويمكن القول إنّ كل ملابسات حفر القناة على أرض مصر وبأيدي عمّالها وبأموالها، وسرقتها من مصر بكل سبل الاحتيال واللصوصية والخيانة والاستغفال، تبرّر التأميم التاريخي العظيم الذي قام به الزعيم الراحل جمال عبد الناصر واستعاد به لمصر حقوقها وبنى أُسُس الاستقلال الاقتصادي الوطني وخلق نموذجًا أصبح عالميًا لاستعادة حقوق الدول المستقلة حديثًا بتأميم ملكيات دول الاستدمار، وبناء قواعد الاستقلال الاقتصادي وما أحوج بلادنا العربية لهذا الاستقلال في الوقت الراهن.


لقراءة الجزء الأول: قناة السويس.. من الحفر والسرقة إلى التأميم (2/1)

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن