بصمات

الإيديولوجيا في التّأليف العربيّ (3/2)

لناصيف نصّار في الإيـديـولوجيـا كتابان صَـدَرَا، تبـاعًا، عن دار الطّليعة وحَمَلاَ عنوانـيْن متقاربيْـن: "الفلسفة في معركة الأيديـولوجيّـة" (1980)؛ و"الإيـديولوجيّـة على المحكّ - فصـولٌ جديدة في تحليل الإيـديـولوجيّـة ونقـدها" (1994). لكنّهما ما اتّـخذا شكلَ كتابـيْـن نظريَّـيْـن في المفهـوم وتاريـخِه وخريطـةِ استعمالاتـه الفلسفـيّـة - على نحو ما نجد ذلك عنـد كـلٍّ من عبد اللّه العروي ومحمّـد سبيلا اللّذيْـن كَـتَـبَا في الموضوع - وإنّـما سَلَـك فيهمـا مَسْـلك الباحث في الإشكـاليّـات التي تطرحُـها علاقـاتُ الفلسفة بالإيـديـولوجيـا، وعلاقـاتُ الأخيرة بالعقـل واللاّعقـل والسّلطة والسّياسة والمصالح. وهو مسلكٌ مقصـودٌ من الفيـلسـوف اللّبناني ومـوعًى به لإلـقاء الضّـوء على المفهـوم في صلاته التي نسجها بغيره و، بالتّـالي، لإخراجه من الدّرس الأكاديـميّ الصّارم إلى البحث فيه في المجال التّـداوليّ.

الإيديولوجيا في التّأليف العربيّ (3/2)

ولمّا كانت زاويـةُ الدّرس والتّـناول لموضوعٍ مّـا من الموضـوعات هي التي تُحـدِّد طبيعـة البحث فيه، وسِـماته التي تُمـيّـزه من غيره، فإنّ الطّابـع الأكاديـميَّ - التّـاريخَ فـكريًّا، بل الپـيداغوجيّ  الجامعـيّ، - الذي مـيَّـز عمل كـلٍّ من العروي وسبيلا - أتى يـقـدِّم نفسَـه في صورة مختلفة عن نظيـرِه الجِـدالـيّ الذي ميَّـز عمل ناصـيف نصّـار؛ وذلك لاختـلاف منـطلقـات كـلّ دارس وما تَـغَـيّـاهُ من أهـداف: البحث في التّـاريخ المعرفيّ للمفهـوم (العروي، سبيلا)؛ والبحث في  مشكـلات العلاقة بين المفهـوم وما يقتـرن - أو يصـطـدم - به من مفاهـيمَ في محيطـه المباشر (نصّار). على أنّ الأمر لا يتـعـلّق، هنا (وينبـغي أن لا يتـعـلّق)، بمفاضلـةٍ بين المقاربتـيـن؛ ذلك أنّ زاويـتيْ النّظر تيْـنِـك، وعلى ما بينهما من اختلافٍ، ضروريّـتان مـعًا لكي تكـتـمل بهما - أو بعـمليّـة التّـفكير من خـلالهما - صورة الإيـديـولوجيـا في كـلـيّـتها: وضـعًا نظـريًّا واشتـغالًا وتـداوُلًا.

تسلّم "الواقعيّة الجدليّة" باختلاف ماهية الإيديولوجيا عن ماهية الفلسفة ولكن بانطوائها على مضمونٍ فلسفيّ

ينـتـقد ناصيف نصّـار النّظر الوحيـد الجانـب إلى العلاقـات بين الفلسـفة والإيـديـولوجيـا؛ سواء الذي يُـدمج بينهما فـيرُدّ الفلسفـة إلى الإيـديـولوجيـا، أو الذي يفـصل بينهما فصـلًا تـامًّا، متـطلِّـعًا إلى تكوين نظـرٍ جديد "يستـوعـب العلاقات... بدون تشـنُّـج". وهذا نمـطٌ من النّظـر غيرُ مُتـاح إلّا في إطار ما سمّـاهُ نصّار الواقـعيّـة الجدليّـة. تسـلِّـم هـذه الواقـعيّـة الجدليّـة باختلاف ماهيـة الإيـديـولوجيـا عن ماهية الفلسفـة ولكن، في الوقـت عيـنِـه، بانطـواء الإيـديـولوجيـا على مضمـونٍ فلسـفيّ، وبجِـدالها فـلسـفاتٍ مخالفـةً للفلسفـة التي تقوم عليها هي - كإيـديـولوجيـا - مثلما تسـلِّـم بما يَـسَـعُ الفلسفـةَ أن تنهـض به من دورٍ إيـديـولوجيّ يـتـبدّى في الجـدالات التي تنشـأ بين التّـصوّرات الفلسـفـيّـة.

ما من شكٍّ في أنّ هـذه النّـظرة الجدليّـة تجـسِّـر، إلى حـدٍّ بعيـد، الفجـوةَ بين الفلسفـة والإيـديـولوجيـا وتعيد تأسيس العلاقة بينهمـا على أساسٍ تفاعـليّ مفـتـوحٍ ومتبـادَلِ الآثـار. غير أنّ ذلك ليس سبـباً، أَلْـبَـتَّـةَ، لأي اعـتـقادٍ بتـطابُـقهـما؛ حيث لا مِـراءَ، عنـده، في أنّ "الإيـديـولوجيّـة لا تستطيع أن تـنقـلب فلسـفةً بالمعنـى الصّحيح، والفلسـفةُ لا تستطيـع أن تَـحُـلّ محـلّ الأيديـولوجيّـة". وما أغنانا عن القـول إنّ نصّـارًا يَـصْـدُر - في حكمه هذا بالمُـبايـنـةِ والمُغايَـرة - عن موقـفٍ فـلسفيّ مَـبْـناهُ على منطـق الماهيات؛ حيث لكلِّ واحـدةٍ من طرفي العلاقة ماهيةٌ خاصّـة بها تكون وتـتحـدّد، وبها تَـنْـمَـازُ وعن غيرها تـتمايـز. هكـذا، وبهـذا المقتضى، لا تكون الاثـنـتان رديـفـتـيْـن لبعضهما، بل تـقـتـرنان اقترانَ تَـفاعُـلٍ بين كيانـيّـتـيْـن مستـقـلّـتـيـن.

لا يَـمْـنع منطـقُ الماهيات - الذي يقـضي بوجـوب النّظـر إلى كـلٍّ من الفلسفـة والإيـديـولوجيـا في تَـمايُـزِهما - من إخضاعهـما، في الوقـتِ عيـنِـه، لِمنطـق العـلاقات والنّـظرِ إليهما في مساحـة التّـفاعُـل أو التّـقاطُع التي تنشأ بينهما. ولكنّ هـذا، في المقابل، لا يُـفْـهَـم منه، عند نصّـار، أنّ "التّـمييز النّـظريّ بين الفلسفة والإيـديـولوجيّـة لا يعني انتـفاء التّـنازع بيـنهما، وإنّـما يعني أنّ الفلسفة تـتطـوّر في زمـانٍ ومنطـقٍ خاصّـين بها، وكذلك الأيـديـولوجيّـة". على أنّـه أيًّا كان مبْـلغُ تسامحِ نصّار مع الإيـديـولوجيـا، وتَـفـهُّـمِه لدواعيـها والحاجـات والمصالح التي تَحْـمل على امتطاء صهـوتها، فـنحن لا نملك أن نـنـتـظـر من فيلسوفٍ الانـتصارَ لها أو، على الأقـلّ، نَـفْـيَ ما قـد يكـون من تـناقـضٍ وصـراعٍ بينها والفلسفة. وبيـانُ ذلك أنّـه إذا كان تاريخُ الفلسفة تاريخَ صراعها مع أنمـاطٍ من التّـفكيـر أخرى تخالِـفُـها: الفـكر الأسطـوريّ القديـم، مثلًا، والفـكر الدّينيّ الوسيط، فإنّـها تبـدو - اليـوم - وكـأنّـها قـد دخلـت معـتَـرَكَ صـراعٍ مع الإيـديـولوجيـا. أمّا الباعـث فمعـرفيٌّ، في المقام الأوّل، ويـتمثّـل في انتماء الإيـديـولوجيـا إلى الفـكر العقائـديّ، شأنها في ذلك شأن الوعـيـيْـن الأسطوريّ والدّينيّ، من جهـة، وفي استقامـة التّـفـكير الفلسـفيّ - في تكـوينه - على مبدإ النّـقـد من جهـة ثانيـة. وإلى ذلك كلِّـه تجد الفلسفةُ نفسَـها مدفوعـةً إلى مثل ذلك الصّـراع مع الإيـديـولوجيـا بقـوّة الأمر الواقع الذي تفرضه سطـوةُ هذه الإيـديـولوجيـا على التّـفـكير في العالم المعاصر. على أنّـها لا تخوض معها ذلك الصّـراع قصد إخضاعها، بل قصد تحرير الفلسفة من هيمـنـتها.

ما من فيلسوف يرتضي لنفسه أن يحُطّ من قدْر بضاعته المعرفيّة في مقابل تبجيل غيرها

بعيدًا من مشكلات العلاقة بين الإيـديـولوجيـا والفلسفة، وخـلافًا لدارسيـن عرب آخرين، لا يضع نصّار الإيـديـولوجيـا في مقابل العلم فيحْـكُم عليها، تبعاً لذلك، بأنّـها وعـي زائـف ومغلـوط ومضـلّل. أمّـا إحجامُـه عن الانسياق وراء ذلك فـمَـرَدُّه إلى أنّه لا يـفـكّـر في الإيـديـولوجيـا انطلاقًا من نظريّـة المعرفة ومن معاييـرها "العلميّـة": مطابقةُ الفـكرة للواقع أو مفارقـتُها له؛ وثنائـيّـاتُها المفهـوميّـة (الصّـواب/الخطـأ؛ الحقيقة/الوهـم...)، بل يـفـكّـر فيها انطلاقًا من أدوارهـا التي تنهض بها في النّظام الاجتماعيّ، وفي السّياسة والحياة العامّـة. والحـقُّ أنّ نصّـارًا، في هذا، ظـلّ وفـيًّا لموقعه كـفيلسوف يأبى أن ينساق إلى إقامة مثل ذلك التّـقابـل المعرفيّ بين الإيـديـولوجيـا والعلم.

ما من فـيلسوفٍ، على الحقـيقة، يرتـضي لنفسه أن يخون رسالته ويـحُطّ من قـدْر بضاعـته المعرفـيّـة في مقابل تبجيـل غيرها؛ لأنّـه - إنْ فَـعَـلَ - يُـقيـم بذلك الحجَّـةَ عليها وعلى نفسـه في آن. وإلى ذلك، يـدرك نصّار أنّ نظريّـة المعرفة ليست وحـدها المبحثَ الذي يتـناول سؤال الإيـديـولوجيـا، بل تُـقاسِـمُها الاهتمامَ بـه مباحـثُ أخرى - في الفلسفة وفي العلوم الاجتماعيّـة - تـنظر إلى المفهوم في اتّـصاله بمـيادين الوجـود الإنسانيّ التي تتخطّى دائرة المعرفة.


لقراءة الجزء الأول: الإيديولوجيا في التّأليف العربيّ (3/1)

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن