فبعد التوغل والحصار الميداني، بالنار والدواء والغذاء والوقود، اقتحم جيش الاحتلال مستشفى الشفاء لتتكشّف فضيحة استخباراتية مزدوجة الجنسية أحيت تفاصيل 7 أكتوبر المجيد والإخفاقات المتناسلة التي مُنيت بها المخابرات الأمريكية وربيبتها الإسرائيلية، فلم يحصدا مطلق "جائزة" مثل غرفة عمليات أو قادة للمقاومة أو مخابئ للأسرى "المختطفين" الذين لأجل تحريرهم ناقض الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه بين منع اقتحام المستشفى، ثم اقتحامه، استنادًا لمعلومات استخبارية صافية دفعت مدير المخابرات الأمريكية وليم بيرنز لزيارة "تل أبيب" بهدف تشكيل وتوجيه الفرقة الأمنية الأمريكية المعنيّة بحصد رؤوس قادة القسّام وتحرير "الرهائن".
وإضافة للصيد الثمين الذي كانت المخابرات الأمريكية والإسرائيلية تُمنّي النّفس به، جاءت بروباغندا تضخيم حجم مستشفى الشفاء وتصويره هدفًا عسكريًا استراتيجيًا يختصر العدوان على غزّة، فصنعوا له رمزية كبيرة تبريرًا لاقتحامه، ليتّخذوا منه منصّة إعلان النصر على غزّة ومقاومتها.
وقد اقتبس الأمريكيون من غزو العراق تركيزهم الإعلامي على معركة المطار كمؤشّر على سقوط العاصمة، دون اعتماده منصّة إعلان سقوط بغداد وفق ما يروّج اليوم. فالأمريكيون وعبر شبكة CNN وشبكات أوروبية، بذلوا ضغوطًا وتحريضًا كبيرين على وزارة الإعلام العراقية والشبكات الصحفية لهدف محدّد وهو نقل إقامة الصحفيين من فندق الرشيد إلى فندق ميريديان فلسطين، وذلك بحجة أنّ "الرشيد" يعرّض الصحفيين للخطر لمجاورته القصر الرئاسي، والحقيقة أنّ "الرشيد" لم يُصب بطلقة واحدة، فلقد اختير مسبقًا كمقر إقامة لجنرالات الاحتلال الأمريكي.
آليات أمريكية مُسقَطة على غزّة تبرّر منذ اليوم الأول لـ"طوفان الأقصى" قتل الأطفال والنساء وتدمير البنية التحتية والحياتية
فموقع "ميريديان فلسطين" استراتيجي على ضفة الرصّافة لنهر دجلة من جهة، وساحة الفردوس من جهة ثانية، ولهذا استبطنت الضغوط الصحفية الغربية أهدافًا استخبارية عميقة، ومن غُرفه صُوّر ضبّاط الحرس الجمهوري وهم ينزعون ملابسهم العسكرية، ومن ترّاسه المطلّ على ساحة الفردوس تطايرت صور تحطيم تمثال الرئيس الراحل صدّام حسين، لتصبح "الفردوس" منصّة إعلان سقوط بغداد.
إذ أسوقُ هذه الرواية التي عايشتُ تفاصيلها، فليس بهدف المقارنة بين مستشفى الشفاء وسقوط بغداد، وإنّما بهدف تجحيظ الآليات الأمريكية المُسقَطة على غزّة، توازيًا مع إنسياق فضائيات عربية وراء الأمريكيين وقتذاك بحجة الحفاظ على حياتهم دون التنبّه لحقيقة الأهداف التي تبرّر ومنذ اليوم الأول لـ"طوفان الأقصى" بدون أي لبس، قتل الأطفال والنساء وتدمير البنية التحتية والحياتية، وآخر إنجازات المجزرة الإسرائيلية السوداء اختطاف جثامين المقبرة الجماعية في مستشفى الشفاء، وإتباعها بإخلائه قسريًا من الأطباء والمرضى والنازحين، كما واستهداف المدارس، في سياق استراتيجية الاحتلال الحقيقية للتطهير العرقي ضد الفلسطينيين وملاحقتهم حتى الى جنوب قطاع غزّة.
وتوازيًا مع الفشل الاستخباري المتكرّر، برز ما نشرته وكالة "رويترز" من أنّ المرشد الإيراني علي خامنئي قال لرئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنيّة مؤخرًا في طهران: "لم تعطونا أي تحذير بشأن هجوم 7 أكتوبر على إسرائيل، لذلك لن نخوض الحرب نيابةً عنكم"، ودعاه "لإسكات تلك الأصوات في الحركة الفلسطينية التي تدعو علنًا إيران.. و"حزب الله" إلى الانضمام إلى المعركة ضد إسرائيل بكامل قوّتهما". وهنا بدا خامنئي منسجمًا مع عقيدته السياسية التي ما دعمت "فصائل المقاومة" إلّا للقتال دفاعًا عن إيران ومصالحها. ولعلّ مقاصد خامنئي بالأصوات الواجب إسكاتها تُختصر بالقيادي في "حماس" خالد مشعل المعروف برفضه "أيرنة حماس".
لقاء هنيّة بخامنئي، هزّ شعار خامنئي "سنصلّي في القدس" وصدّع صورة "محور المقاومة"
ما كشفته "رويترز" أنّ تسريب محضر اجتماع هنيّة بخامنئي نفّذه مسؤولان إيرانيان ومسؤول من "حماس"، يعني اتهام الطرفين لبعضهما بالتسريب الذي تمّ نفيه تزامنيًا من الطرفين بهدف لملمة الموضوع بعدما انعكس على حقيقة "محور المقاومة" الذي تُمسك طهران بعنقه وتديره وفقًا لمصالحها، وتتنصّل في الوقت ذاته من "طوفان الأقصى" لأنّ "كتائب القسّام" لم تستشرها بشأنه.
ما تقدّم حول لقاء هنيّة بخامنئي، هزّ صورة خامنئي وشعاره "سنصلّي في القدس"، وصدّع صورة "محور المقاومة" وجعله عبارة عن محورين ضمن محور فضفاض بخلاف المحور الذي يريده خامنئي وفقًا لما أعلنه الجنرال الايراني غلام رشيد عن تشكيل قاسم سليماني 6 جيوش مهمّتها الدفاع عن طهران، ومن بينها "حماس" و"الجهاد"، ما أظهر الحركتين الفلسطينيتين أشبه ببندقية للإيجار، تقاتل لمن يموّلها، وليس لأجل القدس وفلسطين، وهو ما عرضنا له في مقال "ماذا عن طوفان نصرالله!؟".
وليس أدلّ على حالة التبعية التي تريدها طهران توازيًا مع ترديدها أنّ "فصائل المقاومة" مستقلّة في قراراتها، أكثر مما نشرته وكالة "إيرنا" عن لقاء هنية بخامنئي وفيه "أنّ هنيّة قدّم لخامنئي تقريرًا حول آخر التطورات في غزّة". وأغلب الظنّ أن أسلوب صياغة خبر "إيرنا" وتصويره هنيّة كـ"كاتب تقارير" يقف خلف التسريب المدوّي الذي نشرته "رويترز".
وفيما لا يُجدي حذف "إيرنا" لخبرها نفعًا، كما حذفت شقيقتها "مهر" تصريحات غلام رشيد حول "جيوش إيران الستة"، فقد جاءت التخريجة الإيرانية عبر رسالة لافتة من اسماعيل قاآني قائد قوّة القدس في الحرس الثوري الى "الأخ القائد المجاهد والشهيد الحيّ الأخ العزيز أبو خالد محمد الضيف"، وجدير بالتنويه أنّ الرسالة تزامنت مع نفي "تقرير رويترز"، وبعد 41 يومًا من "طوفان الأقصى".
نجحت الولايات المتحدة في منع انخراط حركات المقاومة في حرب إقليمية، عبر أسلوب "العصا والجزرة"
بهذا المعنى، هدفت رسالة قاآني، أولًا، إلى محاولة رتق الفتق الذي أصاب "محور المقاومة" وتحديدًا على خط "حماس" – طهران. ثانيًا، إلى تأكيد موقف إيراني جديد ومختلف عمّا سبق وأعلنه خامنئي وغيره من ساسة إيران وخصوصًا وزير خارجيتها حسين أمير عبداللهيان الذي يحذّر منذ يوم "الطوفان" الأول من انخراط حركات المقاومة في حرب إقليمية نجحت الولايات المتحدة في منعها حتى الآن، عبر أسلوب "العصا والجزرة"، وتجلّى ذلك بالموافقة الأمريكية اللافتة على التمديد 4 أشهر لفترة الاستثناء الممنوحة للعراق من العقوبات المرتبطة بالتعامل مع إيران، ما يتيح لبغداد مواصلة استيراد الطاقة الايرانية. ثالثاً، إلى التأكيد بأنّ "الملتحمين في محور القدس والمقاومة لن يسمحوا للعدو ومن يقف خلفه بالاستفراد بغزّة وأهلها، ولن يمكّنوه من الوصول الى أهدافه القذرة في غزّة وفلسطين.. وسنقوم بكل ما يجب علينا في هذه المعركة التاريخية ". رابعًا، ولكي يعطي موقفه صفة الإلتزام الرسمي، أكد قاآني بأنّ رسالته هي "باسمه وباسم إخوانه في قيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية". وسرعان ما قرأ مراقبون في ارتفاع وتيرة عمليات "حزب الله" ضد مواقع الاحتلال كمًّا ونوعًا، كما وفي تصريحات عبداللهيان الأخيرة عن "ردّ طهران بقوّة على أي استهداف للقوات الإيرانية في سوريا"، ترجمة فورية لرسالة قاآني.
وبعد 44 يومًا من العدوان الذي أخذت تداعياته وفضائحه تصدّع "محور المقاومة" بقيادة إيران، وتصيب تحالف إسرائيل بقيادة الولايات المتحدة نتيجة تفاعل الرأي العام العالمي، وبانتظار ترجمة قرارات "القمّة العربية الإسلامية" في كسر الحصار على غزّة، لعلّ أبلغ تعبير عن حجم الإخفاقات المتناسلة من فجر "الطوفان" إلى مجازر "الشفاء" والمستشفيات والمدارس، ما قاله رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق تامير هايمان: "ما من نصر مهما عظُم، يمكنه أن يمحو عار صدمة 7 أكتوبر".
وما زال رشق الصواريخ متواصلًا..
(خاص "عروبة 22")