في ذلك اليوم من شهر يوليو/ تموز عام 1972، كان مصوّر وكالة "أسوشيتد برس"، نيك أوت، يتجوّل في شوارع قرية "ترانج بانج" التي سيطرت عليها جبهة تحرير فيتنام "فيت كونج"، فإذا بفتاة نحيلة في التاسعة من عمرها تجري عارية وتصرخ "إنها حارقة.. حارقة جدًا".
ثبّت أوت عدسة كاميراته والتقط صورة للطفلة "فان ثي كيم فوك" التي أصيبت بحروق متعدّدة إثر تعرّض قريتها لقصف بقنابل النابلم المحرّمة دوليًا من جانب القوات الفيتنامية الجنوبية المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية.
في اليوم التالي، تصدّرت صورة "رعب الحرب" أو "فتاة النابلم" الصفحات الأولى من صحف العالم، واعتلتها عناوين تلخّص مأساة "ضحايا الحرب الأبرياء"، وتوالت بعد ذلك الجرائد والقنوات في نشر تقارير وتحقيقات وتحليلات عن المأساة الإنسانية وجرائم الحرب التي ترتكب في هذا الجزء من العالم وعن دور الولايات المتحدة فيها.
سُئل ريتشارد نيكسون الرئيس الأمريكي حينها عن تلك الصورة، فحاول إنكارها واعتبارها "مزيّفة وجرى التلاعب بها"، وهو ما وضعه في موقف حرج مع معارضي الحرب، الذين اتهموه باعتياد الكذب والانحراف، "كذب عندما أنكر استخدام قواته للأسلحة المحرمة، وكذب ثانيًا عندما أعلن أن قنابل النابلم سقطت على رؤوس القرويين عن طريق الخطأ، وكذب مجددًا عندما أشار إلى أنّ صورة رعب الحرب مزيّفة وتم التلاعب بها".
صور مأساة الفيتناميين تتضاءل أمام الصور التي تضع أمام أعين العالم الأهوال التي يمرّ بها الشعب الفلسطيني
تحوّلت "فتاة النابلم" إلى أيقونة واشتعلت مظاهرات حاشدة تندّد بدور واشنطن في تلك الحرب التي خلّفت ما يقرب من 2 مليون قتيل فيتنامي وثلاثة ملايين جريح وأكثر من 10 مليون لاجئ، وسقط فيها نحو 60 ألف قتيل أمريكي. لم يقف الاحتجاج عند حدود مدن الولايات المتحدة لكنه زحف ليشعل الغضب في مدن العالم كلّه ضد "جرائم أمريكا".
ومع تصاعد الضغوط على الإدارة الأمريكية قرّرت واشنطن وقف دعمها لجيش جنوب فيتنام وسحبت قواتها من هناك بشكل درامي، فتداعى حلفاؤها وتوقفت الحرب، لتبدأ القوات الشمالية بعد شهور في السيطرة على معظم مدن الجنوب حتى وصلت إلى سايجون والتي صارت عاصمة فيتنام الموحّدة.
لم تكن صورة "رعب الحرب" وحدها التي أثّرت في الرأي العام الذي ضغط بدوره على واشنطن لتقرّر الانسحاب من فيتنام، إذ سبقتها صور نقلت أهوال الحرب وجرائم القوات الأمريكية وحلفائها الجنوبيين، فضلًا عن صور جثامين الجنود الأمريكيين التي فضحت كذب الإدارات التي روّجت لانتصارها على "الشيوعيين"، رغم ما طالها من أوحال في ذلك المستنقع.
ما لا يمكن إغفاله كمؤثّر أساسي في حسم الحرب، هو الدعم العسكري الهائل الذي تلقّته جبهة تحرير فيتنام "فيت كونج" وجيش فيتنام الشمالية من الاتحاد السوفيتي والصين، وهو الذي - إلى جانب الدعم السياسي والاقتصادي - ساهم في تطوير قدرات أصحاب الأرض في مواجهة أمريكا التي أُجبرت في النهاية على الانسحاب وتركت خلفها حلفاءها في الجنوب يتساقطون.
الصور التي نقلتها وكالات الأنباء والصحف في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وجسّدت مأساة الفيتناميين، تتضاءل أمام الصور ومقاطع الفيديو التي تتناقلها شاشات الفضائيات ومنصات السوشيال ميديا لتضع أمام أعين العالم الأهوال التي يمرّ بها الشعب الفلسطيني في غزّة على مدار 44 يومًا.
مشاهد التقاط جثامين الأطفال الأبرياء من تحت ركام الأنقاض، والأشلاء المتناثرة في شوارع شمال القطاع، وصور الأطفال الخدج حديثي الولادة بمستشفى الشفاء وغيرها وهم يلتقطون أنفاسهم الأخيرة نظرًا لتعطّل الحضانات المجهّزة بالأكسجين، والمقاطع التي وثّقت عمليات الدفن الجماعي لمرضى وجرحى قضوا إثر قصف المستشفيات، تصلح كل صورة وكل مقطع منها أن يكون أيقونة من المفترض أن تحرّك ضمير العالم وتضغط على إسرائيل وشركائها لوقف الحرب التي حصدت عشرات الآلاف من الضحايا بين شهيد وجريح.
غيّـرت تلك المشاهد الدموية الإجرامية بالفعل من مزاج الشارع، وخسرت دولة الاحتلال معركة الرأي العام الدولي، وتحرّكت شعوب العالم للمطالبة بوقف المجازر وعمليات الإبادة الجماعية التي يمارسها جيش الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني.
صارت القضية الفلسطينية بفعل مشاهد الإرهاب الإسرائيلي الممنهج بحق أهل غزّة "قضية الشعوب الحرّة"، إلا أنّ هذا التغيّر وتلك التحرّكات لم تستطع حتى الآن تغيير توجّهات صنّاع القرار في واشنطن وأوروبا بالدرجة التي تجعلهم يرفعون الغطاء عن دولة الاحتلال ويوقفون الدعم العسكري والمادي والسياسي لها.
وهذا يعيدنا إلى العامل الثاني، والذي يمكن أن يكون أكثر تأثيرًا من صناعة رأي عام دولي داعم، ويُنسب له الفضل في حسم العديد من الصراعات لصالح أصحاب الحق، سواءً في فيتنام أو أفغانستان وغيرها، وهو الدعم الإقليمي والدولي بكل صوره العسكرية والاقتصادية والسياسية.
إن لم تستجب الأنظمة العربية لنداءات الشعب الفلسطيني ودعوات شعوبها فسيمضي نتنياهو في تنفيذ مخطّطه
ليس من المنطق أن ينتظر الفلسطينييون الدعم من دول أمريكا اللاتينية أو غرب أوروبا أو شرق آسيا وهم محاطون بذوي القربى من عرب ومسلمين يربطهم بهم تاريخ ولغة وثقافة ودين، ورغم ذلك لا تزال مواقف الدول العربية والإسلامية مائعة متخاذلة، حتى القرارت التي صدرت عن قمة الرياض وهي لا تمثّل الحد الأدنى المطلوب، لم تنفّذ وعلى رأسها "فرض إدخال المساعدات الإنسانية عبر معبر رفح"، فعبور الشاحنات صار رهنًا بموافقة حكومة نتنياهو.
لن يتمكّن الشعب الفلسطيني المحاصر من نيل الحد الأدنى من حقوقه المشروعة، ولن تتوقف إسرائيل عن ممارساتها الإرهابية العنصرية، إلا بموقف عربي موحّد لا يقلّ عن الموقف الذي اجتمعوا عليه بعد نكسة 1967 خلال قمّة الخرطوم، هكذا فقط تشعر دولة الاحتلال أنّ وجودها صار مهدّدًا، ويدرك شركاؤها في الغرب أنّ مصالحهم معرّضة للخطر.
إن لم تستجب الأنظمة العربية في هذه اللحظة الاستثنائية لنداءات الشعب الفلسطيني ودعوات شعوبها بضرورة اتخاذ إجراءات أكثر فاعلية، وأن يشعر العدو أنّ تلك الدول مستعدّة لكل الخيارات بما فيها الخيار العسكري، فسيمضي نتنياهو الذي يخوض معركته الشخصية في تنفيذ مخطّطه وهدم المعبد على رؤوس الجميع.
(خاص "عروبة 22")