نقول هذا ونحن نستحضر تبعات عودة باسم يوسف خلال الأسابيع الأخيرة، إلى درجة أنه ساهم بشكل أو بآخر في صُنع الحدث الإعلامي في الساحة الأمريكية على هامش المواكبات المرتبطة بأحداث "طوفان الأقصى".
والحال أنّ مجرّد استحضار هذا الثنائي في معرض قراءات التطوّرات التي تميّز تفاعل النخب الفكرية والإبداعية العربية مع القضية الفلسطينية بين الأمس واليوم، يُحيل بالضرورة على ما يُشبه تحوّلات في أداء هذه النخب، ومن هنا أهم أسباب تحرير المقالة.
واضح أنّ حضور الهمّ الفلسطيني بين النموذجين هو أهمّ قاسم مشترك، لكن في تفاصيل هذه المقارنة، ثمّة ما يُشبه نتائج لا يمكن فصلها عن تحوّلات إقليمية ودولية، تتعلّق بحقول السياسة والفكر والإعلام، كما تهم دور الرأسمال الرمزي لشخصية عمومية ما، ودورها في خدمة قضية إنسانية، والنموذج هنا القضية الفلسطينية بالتحديد.
تأثير ثقافة الصورة والثورة الرقمية لم يعد مسألة ترف فكري كما كان الأمر في بدايات هذه الثورة
من القواسم المشتركة أيضًا، توظيف مَلَكة فكرية أو إبداعية، خدمة للقضية المعنية: كانت المَلَكة الفكرية حاضرة في خطاب إدوارد سعيد، والذي كان يدافع عن القضية الفلسطينية في عقر المؤسسات الأكاديمية الأمريكية، وخاصة في جامعة كولومبيا العريقة، قبل أن يعوضه حاليًا المستشرق الكندي وائل حلاق.
أما مع باسم يوسف، فيُحسبُ له أن المَلَكة الكوميدية التي يملكها، كانت سببًا في رواج كبير لخطابه مؤخرًا، وهو خطاب ينتصر للحق الفلسطيني، طولًا وعرضًا.
يهمّنا أكثر هنا التوقف عند الفوارق الجلية بين النموذجين، ونورد منها النقاط الآتية:
هناك فارق أوّلي يهم الجمهور المستهدف: مع إدوارد سعيد، كان المستهدف جمهور النخبة الفكرية والسياسية والإعلامية وليس الجمهور الواسع، لأنه كان يحاضر في الجامعات وينشر مقالات الرأي في منابر فكرية وازنة، وكان رأسماله الرمزي الأهمّ الذي خَوّل له ذلك، شهرته العلمية العالمية بسبب اشتغاله على موضوع الاستشراق، وتأليفه كتابه الأشهر "الاستشراق" الذي أصبح مرجعًا عالميًا عند الباحثين، بصرف النظر عن موقف هؤلاء من مضامين الكتاب.
بينما مع باسم يوسف، والذي اكتسب شهرة لدى جمهور واسع في المنطقة العربية مع برنامجه الشهير "البرنامج"، الجمهور المستهدف يتجاوز كثيرًا الجمهور المستهدف مع إدوارد سعيد، واتضح ذلك بشكل جليّ مباشرةً بعد مشاركته في مقابلة ضمن برنامج يحظى بمتابعة إعلامية كبيرة، ويقدّمه بيرس مورغان، أكّد من خلالها دعمه للفلسطينيين في غزّة الذين يواجهون أبشع أنواع الجرائم الإنسانية، وهي الحلقة التي حظيت بتفاعلات رقمية كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي وفي عدّة منصات رقمية، ليس في المنطقة العربية وحسب، فهذا تحصيل حاصل بتعبير المناطقة، وإنما في عقر المجال الإعلامي/الرقمي الأمريكي، مما يُحيلنا على الفارق الثاني.
يُفيد هذا الفارق أنّ تأثير ثقافة الصورة والثورة الرقمية لم يعد مسألة ترف فكري كما كان الأمر في أولى بدايات هذه الثورة، على الأقل منذ إطلاق مواقع التواصل الاجتماعي، ابتداءً من سنة 2004 مع "فيسبوك" أو 2005 مع "تويتر"، وإنما نحن إزاء أدوات علمية وتواصلية يمكن أن تصبح أسلحة رمزية في سياق خوض معركة ما، بصرف النظر عن طبيعة هذه المعركة.
وهذا عينُ ما انتبه إليه باسم يوسف في معرض توظيف خطاب الفكاهة و"السخرية السوداء" بتعبير بيرس مورغان، في معرض ردّ هذا الأخير على مداخلة قصيرة ومكثّفة لباسم يوسف جاء فيها أنه في سابق أيام، فقد الاتصال مع أهل زوجته الفلسطينية في غزّة، مضيفًا بنكهة سخرية أنّ الفلسطينيين، "اعتادوا على ذلك وأن يتم قتل الناس هناك، ثم تهجيرهم، ولكن في الحقيقة، هم لا يموتون ويستمرون في العيش، أعلم ذلك جيدًا لأنني متزوج واحدة منهم، فلقد حاولت قتلها عدّة مرات وفشلت".
ليس هذا وحسب، ساهم الرواج الرقمي الكبير الذي خلّفه بث هذه الحلقة في اطلاع جمهور قلّما عاينا انخراطه في التفاعل مع هذه القضايا، كما هو الحال مع نموذج رابط لجلسة شبابية تضم بعض الأمريكيين السود، وهم يبثون الحلقة، مع إبداء تفاعلات وتعليقات على البرنامج، والنتيجة، أنّ مدة الرابط تجاوزت الساعة، مع أنّ مدة البرنامج الحواري الأصلي بين باسم يوسف وبيرس مورغان كانت أقل زمنيًا بكثير، وهذا مكسب إنساني للحقّ الفلسطيني، يتم في عقر الدّيار الأمريكية، ومع شباب لا علاقة له أساسًا، على الأقل بشكل مباشر، مع القضية الفلسطينية، بحيث قد يجتمع لمناقشة إحدى مباريات كرة السلة أو البيسبول أو مناقشة أغاني الشارع (الراب) أو حتى حضور قضايا الأمريكيين السود في الحملات الانتخابية، لكن آخر ما كان يتوقّعه مشاهد برامج هذه الفئة من الشباب، أن ينشروا حلقة مخصّصة لمناقشة مضامين برنامج حواري حول القضية الفلسطينية.
المقارنة بين سعيد ويوسف تلخّص التحوّلات التي يمرّ منها الإنتاج النظري العربي في الدفاع عن القضية الفلسطينية
بقيت هناك إشارة سلبية قد تكون ضمن المسكوت عنه في سياق المقارنة، لأنها مزعجة وعلى أكثر من صعيد، ولا تتعلّق بالخوض في تفاصيل المقارنة، وإنما بعنوان المقارنة في حد ذاته، وبيان ذلك أنّ مجرد الحديث عن مقارنة بين إدوارد سعيد المفكر وناقد المستشرقين الأبرز، وبين باسم يوسف، من مقامه الكوميدي، حديث مؤرّق في حد ذاته، ويلخّص الكثير من التحوّلات التي يمرّ منها الإنتاج النظري العربي في سياق الدفاع عن القضية الفلسطينية.
يكفي التذكير بغياب أو ندرة الإصدارات التي تدافع عن القضية الفلسطينية، سواء كانت صادرة عن الجامعات والمعاهد والكليات، أو عن المراكز البحثية، ويكفي التذكير أنه في زمن، منذ بضعة عقود فقط، كانت لدينا مجلة عربية تحمل إسم مجلة الدراسات الفلسطينية، وكانت تصدر بالعربية والإنجليزية عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ويكفي التذكير بغياب من يُعوض ما قام به المؤرخ وليد الخالدي، أهم مؤرخ عربي اشتغل على قضايا تهجير الفلسطينيين، وهو أحد مؤسّسي مؤسسة الدراسات الفلسطينية أيضًا.
أما غياب من يُعوض إدوارد سعيد، فحدّث ولا حرج، وحتى المستشرق الكندي من أصل فلسطيني، وائل حلاق، والذي كان، نظريًا على الأقل، مرشحًا لكي يعوض ما قام به سعيد، سواء في الاشتغال على قضايا الاستشراق أو الدفاع عن القضية الفلسطينية، اتضح أنه مع كتابه "قصور الاستشراق" (2018، النسخة الإنجليزية و2019 النسخة العربية)، كان همّه مناقشة أو الاعتراض على بعض رؤى سعيد ذات صلة بكتاب "الاستشراق"، وهذا شأنه في نهاية المطاف لأنّه يندرج في مقام حرية التفكير، بينما الأمر مختلف كليًا في السياق الثاني، أي سياق الدفاع عن القضية الفلسطينية، لأنه يكاد يطبق الصمت، بل نقرأ بعض الإشارات في مقدمة "قصور الاستشراق"، التي يبدو فيها كما لو أن سعيد متهم لأنه "متورّط" في الدفاع عن القضية الفلسطينية.
(خاص "عروبة 22")