ثقافة

"الغناء السياسي" العربي.. فلسطين في الوجدان

الرباط - حسن الأشرف

المشاركة

يزخر "الريبيرتوار الغنائي" في العديد من الدول العربية بالأغاني الاحتجاجية التي تتسم بطابع اجتماعي وسياسي، وتطالب بالحرية والعدالة والكرامة، وردم الهوة بين الفقراء والأغنياء، وتقليص الفوارق الطبقية الهائلة، وتوفير العيش الكريم للمواطنين.

تصدّر هذا النوع من الأغاني ذات الطابع السياسي والقومي فرق غنائية بعينها، ومطربون تميّزوا وانفردوا بهذا النمط الفني الذي يوصف بالغناء الملتزم، أو "الغناء الهادف"، وهناك من يُسميه أيضاً "الغناء السياسي"، أو "الفن البديل".

حازت القضية الفلسطينية على وجه الخصوص بنصيب وافر من "الأغنية الاحتجاجية" في المغرب وعدد من دول الوطن العربي، حيث برزت في هذا الصدد أسماء لامعة في مرحلة سابقة من قبيل السيد درويش والشيخ إمام، وحديثًا فرقة "ناس الغيوان" المغربية، والفنان اللبناني مارسيل خليفة، والفنان التونسي لطفي بوشناق، والفنان المصري علي الحجار، والمنشدة الفلسطينية ميس شلش، وآخرين كثر.

شرارة السيّد درويش

كثيرًا ما ترتبط الأغنية الاحتجاجية أو السياسية بالواقع السائد في كل بلد عربي، وبما أنه لطالما عانى الوطن العربي من مشاكل التنمية وإكراهات العيش الكريم، فضلًا عن طبيعة السلطة الحاكمة فيه، فإنّه من الطبيعي أن تنبثق الأغنية التي تحاول أن تصف الواقع وتحتج عليه.

يمكن القول إنّ الأغنية التي تستلهم مواضيعها من هموم الشعب العربي، وتأسّست قواعدها الفنية والجماهيرية، بزغت بشكل رئيسي مع أغاني السيّد درويش البحر، الذي يصفه الكثيرون بفنان الشعب، ومُجدد الموسيقى العربية في مصر والعالم العربي.

ولأن "الفنان ابن بيئته" كما هو متداول ثقافيًا في المنطقة، فإنّ السيّد درويش تأثّر بأوضاع الحي الذي ولد فيه بمدينة الإسكندرية، وكان حيًا شعبيًا ممتلئًا بحكايات الحرفيين والمهنيين والبسطاء، فتولّد لدى درويش إبداع هادر في التعبير عن آمال وآلام الشعب الذي ينتسب إليه.

وبالرغم من حياته القصيرة (توفي في سن الـ31 عامًا)، فإنّ السيّد درويش أبدع في الأغاني الخالدة التي حُفرت حفرًا في ذهنية الجمهور المصري والعربي على السواء، وكان منها أغنية "بلدي يا بلدي والسلطة خدت ولدي"، وأغنية "قوم يا مصري.. مصر دايمًا بتناديك"، وأغانٍ سياسية أخرى.

وبعد السيّد درويش ظهرت أسماء أخرى لا تقل أهمية في إطلاق شرارة الأغنية الملتزمة، من قبيل الشيخ إمام في مصر، ومجموعات ناس الغيوان والمشاهب وجيل جيلالة وسعيدة فكري من المغرب، و"الحمائم البيض" و"أولاد المناجم" من تونس، وغيرها.

تأرجحت الأغنية الاحتجاجية والسياسية بين المدّ والجزر، بحسب الأوضاع السائدة في الوطن العربي، ووِفق مدى مرونة أو شدّة السلطة السياسية، وأمزجة وتوجهات الجماهير العربية. ففي الستينيات والسبعينات وحتى الثمانينيات من القرن الماضي كانت الأغنية السياسية منفذًا فنيًا تعبيريًا محوريًا، لكن في السنوات الأخيرة وتحت تأثير مواقع التواصل الاجتماعي وما تبثه من موجات التفاهات والترفيه والتسلية، ضاقت المساحات أمام الأغاني الملتزمة، ولم تعد تتسع لها سوى في الأزمات أو الحروب، مثل الحرب الراهنة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة.

الأغنية الاحتجاجية بالمغرب

في المغرب على سبيل المثال، وبمجرد الخوض في موضوع الأغنية الملتزمة أو الاحتجاجية، لا يمكن استثناء الفن الشعبي الذي يُسمّى "العيطة"، خصوصًا في سنوات الاستعمار الفرنسي الذي كانت ترزح فيه البلاد، منذ سنة 1912 إلى عام نيل الاستقلال السياسي في 1956.

و"العيطة"، وِفق كتاب حسن نجمي الخبير العارف بهذا التراث الشعبي، ومؤلف كتاب "العيطة ـ الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية في المغرب"، هي "نَفَس ساخن صاعد من الدواخل، ويخرج من الجراح الفردية والجماعية"، وكانت وسيلة للحض على مقاومة المحتل، وتنتقد سلوكات السلطة الحاكمة حينها.

ومن غناء "العيطة" في حقبة الاحتلال الفرنسي للمغرب، إلى غناء "الراب" في السنوات الماضية، حيث امتدت الأغنية الاحتجاجية المغربية بلون مغاير ونمط موسيقي سريع وعصري، وكلمات خفيفة تتسم بالإيقاع المتصاعد، عبّر عنه عدد من مغنّي هذا الفن الحديث نسبيًا.

ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى أغنية "عاش الشعب" الشهيرة التي أداها ثلاثة شبان يؤدون أغاني "الراب"، وهم لكناوي ولزعر وولد لكرية، وقد حققت نجاحًا جماهيريًا لافتًا، كما حظيت بنسبة مشاهدات قياسية، ومعها أغنية عمر السهيلي الملقّب بـ"ديزي دروس" أيضًا، والتي وسمها بعنوان "مع العشران" (رفقة العشيرة)، وضجّت برسائل سياسية قوية وانتقادات حادّة وجهها إلى رئيس الحكومة وإلى النخب السياسية والإعلامية، بما يغذي آراء بحثية متداولة في الساحة حول الظاهرة، من قبيل أنّ أغلب مغنّي موجة "الراب" يعتقدون أن أغانيهم هي تعبير عن روح التمرّد التي يستشعرها شباب الأحياء الشعبية ضد الأوضاع السياسية السائدة التي عادةً ما تقصي الشباب وتهمّشهم.

وبين حقبة "العيطة" وحقبة "الراب" اللتين بزغت فيهما أغانٍ احتجاجية متفرّقة، استطاعت مجموعة ناس الغيوان المعروفة أن تضع الأصبع على الجرح النازف في المجتمع المغربي، وخاصة في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، حيث كانت تصيغ أغاني تتسم بطابعها الاحتجاجي التي تصل أحيانًا إلى إشارات نقدية صريحة اتجاه السلطة السياسية أو ضد السياق الاجتماعي السائد.

وبآلات غنائية تراثية مثل "الطام طام" و"الهجهوج" و"السنتير"، تمكنت فرقة ناس الغيوان ـ وعلى غرارها مجموعتا جيل جيلالة والمشاهب وغيرهما ـ من التعبير عن قضايا الطبقات الشعبية الفقيرة والمسحوقة تحت وطأة الفقر والتهميش والأمية، وهي الأغاني الاحتجاجية التي حظيت بقول كبير، قبل أن يأفل نجم هذه الفرق في السنوات الأخيرة بسبب تفكّكها وتضاؤل أنشطتها الفنية.

فلسطين في الوجدان

كانت القضية الفلسطينية حاضرة في أعمال أغلب هذه المجموعات الغنائية بالمنطقة العربية، وخاصة لدى الفرق والأسماء الغنائية التي حملت الهمّ الشعبي ودافعت عن الطبقات الفقيرة في أعمالها الفنية، بحيث لم نعاين فصلًا بين الدفاع عن قضايا مجتمعية والقضية العربية الأمّ في المنطقة، خاصة أثناء المرور من أزمات إنسانية عميقة من قبيل الحروب التي تطالها من طرف الكيان الإسرائيلي، وآخرها الحرب المدمّرة والدموية التي يشنّها الجيش الإسرائيلي على قطاع غزّة.

تحضر فلسطين في أغاني مجموعة ناس الغيوان المغربية على وجه الخصوص، وهي مواضيع تبدو صادقة تناولتها بعفوية تندرج تحت إطار الزخم الشعبي والعاطفي للوجدان المغربي نحو فلسطين، التي تُعدّ لدى المغاربة قضية وطنية بمثابة قضية الصحراء المغربية.

ولا تغفل الذاكرة الغنائية المغربية عن أغاني الغيوان التي أبدعتها حول فلسطين، والمقاومة لتحرير الوطن، من قبيل اغنية صبرا وشاتيلا التي جاءت عقب المجزرة الشهيرة في 1982، وأغنية "الأمة"، وأغنية "الانتفاضة"، وأغاني أخرى كثيرة.

وإلى جانب المجموعات الغنائية الجماعية التي وُصِفت بكونها مجموعات ملتزمة بالهمّ العربي، سبق للمطرب المغربي رشيد علام أن غنّى أكثر من مرّة لفلسطين، والأمر نفسه مع الفنان نعمان لحلو الذي أصدر مؤخرًا أغنية حول الحرب التي تشنّها إسرائيل ضد ساكنة غزّة.

ولا تعدم البلدان العربية من أسماء فنية مشرقة تتغنّى بفلسطين، من أجل إبقاء الوعي بالقضية المركزية متقدًا ومشتعلًا في أذهان الجماهير العربية  التي باتت مغيّبة عن قضاياها لألف سببٍ وسبب. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن