أجمل الكتب، هي التي تبني ذاكرة المكان وتعيد تشكيلها بطريقة مستديمة عند الناس، ولا تغادرهم. مثال الحنين الى الأسماء التي استقطبها المعرض في الشعر والأدب والسياسة والتاريخ والإجتماع والرسم والمسرح والموسيقى. رواية جميلة عن عاصمة الحكايات والجامعات والنوادي والمقاهي والأصوات وامتداداتها إلى المجالات كافة.
كثيرون من قائمة كبيرة رحلوا، منهم نزار قباني ومحمود درويش وغسان تويني وطلال سلمان ورياض نجيب الريّس وزهير عسيران ونبيل خوري وسهيل إدريس وآخرون. ويمكن أن نضيف الكثيرين ممن غادروا صفحات كتبهم وكراسيهم، وكل ما تأهلت له المدينة في الإنتاج الأخصب.
كانوا التكتل الأقوى ضمن سلطة معرفية يقظة وفاعلة ومركز التعايش على تنوّع وتعدديّة. ولهم نظرية شاملة تعمل لما يغني لبنان ولا يلغيه، تجاه منظومة سياسية معقدة في حالة من الشلل أو الإنحلال، ليست على مستوى رسالة لبنان ودوره في المنطقة العربية إلى درجة تتجاوز حقيقة الكيان ومؤسّسيه في مستويات من الفراغ.
تحوّل المعرض العربي إلى مساحة مفتوحة لإرساء تقليد/دلالة على عبارة المدينة/المواطنية. المعنى الإجتماعي للوطن في مجموع العلاقات، التي تأسّست عليها بيروت وصيرورتها.
صار المعرض الهويّة الوطنية التي استطاعت تحدي الأوضاع ومخاطرها الوجودية
مدينة محصنّة خلف الكتاب/البناء الحقوقي المتساوي في المكان، بمعزل عما يجري خارج الجدران من أشكال التراشق والنزاعات والانقسامات والمحاورات العنيفة. لكن من دون الإستدلال على مناهج نظام سياسي حديث يستجيب للتحوّلات والمتغيّرات التي تعصف بالعالم.
لم تعد بيروت جزءًا من ذلك التجريب الخلّاق لعوامل داخلية وخارجية عديدة. لكن لم يستسلم المعرض الذي أقام طويلًا على خطوط تماس مع الأحداث. عرف معنى ممارسة الفعل والمعنى الثقافي في تجريب متفاعل. كان يمكن أن يكون أكثر غنى، كما لبنان أكثر من دولة وتنوّع ورسالة في التوفيق بين الثقافات.
نجحت بيروت في مواجهة تحديات الحرب والسلم والمسارات الإستبدادية والمشاحنات السياسية. فصار المعرض الهويّة الوطنية، التي استطاعت تحدي الأوضاع ومخاطرها الوجودية. وهو محكوم بمزيد من الأمل والثبات والصبر كضمير مديني جامع.
ليست الدورة الحالية موضوعًا للذكريات. هي مسألة ربط مع زمن لقي الصدى الإيجابي، وتواجه مقاربة مع مرحلة نجاحات وازدهار في معرض كبير. لكن لم تتحوّل إلى مجموعة ضغط فكرية في منطقة عربية متأزّمة/محفوفة بالمخاطر حول البناء القومي العربي وقابلية الإستدامة؟
بيروت لن تتوقف عن الكلام والقراءة والطباعة
مع مجيء الكتب لم تعد الناس بحاجة إلى ذاكرة. لبنان وفلسطين مهدّدان بالحرب الإسرائيلية، وحيث لم يبقَ من أحلام المجال العام العربي المشترك وثقافة المواثيق المشتركة إلا استبطاناتها وسط الحذر في العلاقات الخارجية. ذلك أنه لم يكن للدولة طور في وعي المبدعين الأوائل. وحيث يتطلّب التغيير مشروعًا ورؤية ومخيّلة إبداعية، وإذا اقتصر على الإيديولوجيا، قد يثمر في التعبئة مؤقتًا ليولد بعدئذ اليأس والمرارة والإحباط. وتليها إيديولوجيا أخرى بديلة تستغل رمزية التغيير للتعبئة في التنافس السياسي والعقائدي تجاه شعوب يائسة. حسنًا عادت الناس إلى القراءة وإلى طعم المعرفة. ربما في الأمر مبالغة! هذا ما لم نعرفه الآن بدقة. لكن كما يبدو بيروت لن تتوقف عن الكلام وعن القراءة والطباعة.
ليست الإنتماءات الى الكتاب بلا معنى، لأنها الإحساس بالعلاقة مع الآخر والحقيقة، والإهتمام بالإنسان ومسؤوليته عن كل ما يجري من انشطار في قيم العالم.
تتغيّر الأوضاع والأشياء. يعاني البعض من فقدان الثقة لأسباب داخلية وخارجية، في حين أنّ الأخيرة هي العامل الفعّال في بناء الأوطان، كما في تهديم القدرات وأرقى الإنجازات. الآن ندرك كم كنا محظوظين حين تعرّفنا إلى أولئك الموهوبين، وإلى مواقعهم، إلى دور النشر والترجمات والصحافة والمؤسسات الثقافية.
بيروت لن تغادر مكانها، حتى باحتمالات الحروب من اختصاص أنظمة توتاليتارية ونيونازية إسرائيلية.
عندما يعمّ الخوف واليأس تزداد الحاجة إلى الكتاب العربي، وإلى الذين لا ييأسون.
(خاص "عروبة 22")