بالرغم من كون الجيوسياسة، تهتم بدراسة أنماط صراع القوى في المجال، كما عرّفها إيف لاكوست - الأب الروحي للجيوسياسة الفرنسية - وذلك انطلاقًا من محددات موضوعية وقابلة للقياس، فإنّ "المشاعر" التلقائية أو التي يتم تأجيجها من طرف صنّاع السياسة، تحمل القيادات على تبني قرارات استراتيجية في غاية الأهمية والخطورة وتُشكّل ليس فقط مسار مجتمع معيّن ولكن مسارات العالم ومستقبله. وإذا كانت المشاعر غير عقلانية ولا يمكن الاستناد إليها في اتخاذ القرارات، فإنّ الواقع السياسي شاهد على خضوع صاحب القرار السياسي غالبًا لموجات الغضب الشعبي أو الخوف من المجهول، وبالتالي تلبية مطالب أو التنازل عن سياسات، لمجرّد المناورة وتفادي السخط العام أو توجّس نخب معينة وليس حتمًا اقتناعًا بالقرارات المتخذة.
وهكذا فإنّ جيوسياسة الخوف هي "فن" توظيف "الخوف" في توجيه الرأي العام الوطني أو الدولي، لانتزاع فرص جيوسياسية مرتبطة بسياق محدد؛ وهي كذلك استثمار لهواجس لشعب ما، وحمله على قبول سياسات تحد من حريته وحقوقه، مثل "الحرب على الإرهاب"؛ التي قسّمت العالم إلى محورين، للشر والخير. ولا شك أنّ هناك "فوائد جيوسياسية" يجنيها صنّاع السياسة من الخوف، ومن ذلك توحيد شعب ما، لمواجهة خطر قادم من عدو محدد؛ وإذا لم يوجد يتم صناعة هذا العدو، مثل المبالغة في التخويف من المهاجر والمسلم والأسود أو عمومًا الإنسان غير الأبيض في أوروبا الغربية.
سياسة "الخوف على العرب" تُكرّس جيوسياسة الهيمنة وإعاقة محاولات النهوض والتقدّم والارتقاء
وقد وُظّفت جيوسياسة الخوف، في "ردع" اليابان في الحرب العالمية الثانية، وتدمير مدينتي هيروشيما ونكازاكي؛ وإن لم يكن ذلك ضروريًا لإنهاء الحرب بهذه التكلفة الهائلة والقرار غير الأخلاقي، فأصبح السلاح النووي آلية للتخويف والترهيب والإخضاع. ونبّه المفكر بول فيريليو P.Virilio إلى الوظيفة السياسية للخوف في العالم المعاصر كما بين عدة باحثين أهمية استعمال الخوف في تبرير السياسات الأمنية والدفاعية والمصادقة على ميزانية التسلّح والصناعات العسكرية والسباق الشرس لامتلاك أحدث وأخطر المنظومات الدفاعية والهجومية، وذلك ليس من أجل حتمًا تحصين الأمن القومي وإنما لتمكين الشركات العالمية الكبرى من اكتساب مزيد من الأرباح الضخمة على حساب الأمن والسلام العالميين.
ويتم الترويج لخطابات الخوف في العقد الأخير، عبر تسليط الضوء على قضايا مثل التغيّر المناخي والكوارث الطبيعية والركود الاقتصادي العالمي القادم، وتضخيم الخوف من الصعود الصيني والخوف من الاجتياح الروسي لأوروبا أو " التهوّر" الروسي في استعمال السلاح النووي وإنهاء العالم، وكذلك الخوف من امتلاك حركات متطرّفة عابرة للقوميات، للأسلحة الكيماوية والبيولوجية والنووية. وقد نجح إلى حد ما أسلوب التخويف من انتشار الأمراض ومن ذلك جائحة كورونا في إدخال العالم حالة من الرعب والغضب والخوف من المستقبل واعتبرت مرحلة كورونا ليس فقط أزمة صحية عالمية وإنما توظيف للصحة البشرية في الصراع الجيوسياسي العالمي.
وتتكاثر كذلك الخطابات والدراسات حول "الخوف من الذكاء الاقتصادي" وإمكانية تفوّقه على الإنسان، أو استعماله من طرف الإرهابيين أو "الدول المارقة" وتهديد الاستقرار العالمي بل التوجّس من قدرته على تدمير الحضارة الإنسانية.
كما تتوالى الدراسات والتقارير مؤكدةً على حتمية انهيار المجتمعات الهشة، ومنها جل الدول العربية، وأنها غير قادرة على الخروج من مأزقها ومحنتها وأنّ أنظمتها لن تستطيع الإبحار في عالم معقّد وغير قابل للتكهّن، وبالتالي فهي في حاجة إلى من يقودها ويرشدها إلى بر الأمان، ولن ينفعها سوى طلب حماية ورعاية القوى الكبرى.
يجب التحرّر من قصف عقول العرب بأفكار خبيثة توهمنا أننا غير قادرين على استئناف السير على درب التحضّر
وإنّ سياسة "الخوف على العرب"، من مستقبل قادم، والتي تسهر جهات متعدّدة على إقناع الأنظمة والشعوب العربية بمصداقيتها، لن تخدم حتمًا مستقبلنا، وإنما تُكرّس جيوسياسة الهيمنة وإعاقة محاولات النهوض والتقدّم والارتقاء. ولا بد أن نتعلّم من تجارب الأمم في التاريخ المعاصر والتي انهزمت في حروب، وبالرغم من ذلك استطاعت الالتحاق بالركب الحضاري العالمي، مثل اليابان وألمانيا والصين نفسها التي عانت من الإذلال أثناء حروب الافيون، والتي رامت تقويض معنويات شعبها.
لا شكّ أنّ المنطقة العربية مهدّدة بمخاطر حالية وقادمة، لكن يجب أن يكون ذلك سببًا لإيقاظ الهمم والعمل بشكل مشترك بين كافة الدول العربية والوعي بالمستقبل المشترك بروح علمية مبدعة وعقلانية إيمانية، من أجل التصدي لمختلف خطابات التخويف وصناعة الخوف والتلاعب بمشاعر الشعوب العربية والتحديات الراهنة والمستقبلية، وتحويل "الخوف" إلى حركية إيجابية للبناء والإنتاجية وتجاوز عوائق التخلّف. وكذلك التحرّر من قصف عقول العرب بأفكار خبيثة وماكرة توهمنا أننا غير قادرين على مواصلة واستئناف السير على درب التحضّر. وهكذا يمكن تفادي الآثار السلبية لجيوسياسة الخوف، وإرساء جيوسياسة الأمل؛ لأنّ امتلاك الأمل وترسيخه كثقافة يتم نقلها إلى الأجيال الحاضرة والمستقبلية، هو أمر حاسم في تقوية الصمود الجيوثقافي الذي سيمكّننا من التعافي ونفض مشاعر الذلّة والإحساس بالنقص والعجز عن منافسة الأمم في الترقي.
(خاص "عروبة 22")