لم يكن الدين فقط الحاضنة الاجتماعية لثقافة المقاومة الفيتنامية الباسلة ضد المستعمرين، وإنما روح الارتباط بالأرض، وأيضًا النزوع الاشتراكي والشيوعي، ووراء ذلك هدف الاستقلال. هذا النمط كان مدعومًا أيضًا بالثقافة العامة للشعب، في كل مكوناتها وعناصرها، وذاكرة جمعية ووعي اجتماعي بضرورة طرد المحتل، وفي الوقت ذاته قيادة سياسية صارمة وقادرة على ملكات القيادة الوطنية السياسية والعسكرية تمثّلت في العم هو شي منه، الزعيم الفيتنامي العظيم، والجنرال جياب، وتم التكامل بين السياسي الشعبي المحنّك، والعسكري المقاتل في بسالة.
الكولونيالية الإسرائيلية ذات إيديولوجية ترمي إلى التطهير العرقي وفرض الهجرة القسرية على الفلسطينيين
وليس بعيدًا عن الحالة الفيتنامية، الحالة الجزائرية أيضًا التي اعتمدت على ثقافة الشعب الجزائري في مقاومة الفرنسة، والتكامل بين العرب والبربر في مواجهة الاحتلال وإدارته المباشرة، وفي تلك الحالة تم توظيف الإسلام كهوية في مواجهة المستعمر، والثقافة البربرية والإسلامية الجزائرية كحاضنة لجبهة التحرير الوطني الجزائرية.
من هنا تبدو ثقافة المقاومة الفلسطينية في الأراضي المحتلة بعد هزيمة يونيو 1967 مختلفة عن التجربتين السابقتين، من حيث أنّ الكولونيالية الإسرائيلية استيطانية وإحلالية، وذات إيديولوجية توراتية صهيونية، وسياسية ترمي إلى التطهير العرقي، وفرض الهجرة القسرية على السكان الفلسطينيين!.
صحيح أنّ الإسلام السياسي الأصولي المؤدلج هو المسيطر في بعض مكونات ثقافة المقاومة إلا أنّ الثقافة الشعبية أوسع نطاقًا، وتمثّل أهم قاعدة لرسوخ العلاقة مع الأرض، ومحمولاتها الرمزية، وذاكرة المكان والبشر.
من ثم أدت سياسة التطهير العرقي، وبناء المستوطنات، والاعتقالات والقتل، إلى تمدّد الإيديولوجيا الدينية السياسية كأداة للتماسك والاندماج الاجتماعي والسياسي، إزاء الاعتداءات الإسرائيلية الممنهجة، وأيضًا لإنتاج البشر للمعنى لحالة الموت في قلب الحياة، من قلب المعتقد الديني الإسلامي السنّي.
الأهم أنّ الضرورات السياسية العملية للمقاومة، دفعت حركة "حماس" للتعاون مع إيران الشيعية، كجزء من البراجماتية السياسية، وتراجعت الخلافات المذهبية التاريخية لصالح معنى المقاومة، وهو ما سيدخل ضمن الثقافة الدينية في قطاع غزّة، وأيضًا المرجع الإسلامي في المقاومة.
من هنا تبدو الحاضنة الاجتماعية الشعبية لحركة "حماس"، الحائل الأساس في مواجهة السيناريوهات المشوّشة والغائمة حال ما إذا تحققت فرضية تصفية قادة وكوادر "حماس"، والبنية الأساسية لها، وأيضًا ترسانة أسلحتها، وهو ما يبدو سيناريو وراءه عديد من العقبات، وحتى إذا تحقق فرضًا ستكون ثقافة المقاومة والحاضنة الاجتماعية لها حائط الصد الأصعب تجاه التصوّرات الإسرائيلية الأمريكية في هذا الصدد.
ما هي السلطة القادرة على إدارة القطاع في ظل غياب أي حديث عن حلّ الدولتين أو استئناف المفاوضات؟
ونتناول هنا بعضًا من سمات القاعدة الاجتماعية لـ"حماس"، وكونها تمثّل ثقافة مضادة لمفهوم التطبيع الإسرائيلي ومرجعيته الألمانية واليابانية بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك على النحو التالي:
- تمدّد ثقافة المقاومة شعبيًا، وعسكريًا وجذرهما الديني، والاجتماعي المحافظ في التركيبة النفسية والاجتماعية للمجتمع الغزّاوي وبين الأجيال الشابة وصغيرة السن، جعل غالبية سكان القطاع يشكلون قاعدة وحاضنة اجتماعية لـ"حماس"، و"الجهاد الإسلامي"، ومن ثم تبدو السيناريوهات الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية لمستقبل القطاع حال تنفذت فرضية تحطيم البنية العسكرية، والأساسية للحركة، وتصفية قياداتها وكوادرها، وهو ما يبدو من الصعوبة بمكان، وتصوّر نتنياهو بإنشاء منطقة عازلة في شمال القطاع، والسيطرة عليه عسكريًا لفترة غير محددة! لحين إنشاء سلطة محلية مختلفة، وتصوّراته حول ضرورة إحداث نمط لتطبيع الغزّاويين، وتصفية ثقافة المقاومة الإسلامية، على نحو ما تم في اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية! تصور غائم وبالغ الصعوبة على التحقق سواء في الحيلولة دون ثقافة المقاومة، وأيضًا إعادة احتلال القطاع ولو لفترة!.
في مقاله في "واشنطن بوست"، شدد الرئيس الأمريكي جو بايدن على ضرورة توحيد غزّة والضفة الغربية تحت بنية حاكمة واحدة هي سلطة فلسطينية متجدّدة، وضرورة أن ينشئ المجتمع الدولي آلية إعادة بناء لتلبية احتياجات القطاع على نحو مستدام، لافتًا إلى أنّ إسرائيل يجب عليها أن تبقي على مسؤوليتها العسكرية الشاملة في المستقبل المنظور "ويجب ألا يكون هناك تهجير قسري للمدنيين من قطاع غزة".
وذهب بايدن إلى أنّ السلطة الفلسطينية يجب أن تحكم في نهاية المطاف قطاع غزّة والضفة الغربية بعد الحرب تحت بنية حاكمة واحدة.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من جهته، طرح تصوّر يعتمد على تصفية "حماس"، ثم إدارة إسرائيلية عسكرية وأمنية للقطاع، وخلق مناطق فراغ عسكرية في الشمال، مع إدارة لعناصر فلسطينية متعاونة مع الاحتلال لإدارة شؤون القطاع، في فترة زمنية غير محددة التوقيت والمعالم، وما بعدها.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي السلطة القادرة على إدارة القطاع! في ظل غياب أي حديث عن حلّ الدولتين أو استئناف المفاوضات، ومع أي طرف فلسطيني؟.
التصورات الأوروبية تركّزت على تسليم القطاع إلى السلطة الفلسطينية في الضفة كمرحلة أولية ثم العودة إلي مسار التفاوض حول حل الدولتين!.
التصوّرات لفرضية ما بعد "حماس" تغفل سيناريوهات نشوء جماعات إسلامية راديكالية تعمل وفق نظرية "العدو البعيد"
مصر والأردن من جهتهما رفضتا الحلول الخاصة بوجود قوة عربية تدير القطاع، ورفضتا معها التهجير القسري لكلا البلدين!.
هذه الأفكار العامة والغامضة لدى بايدن ونتنياهو، تعني أنّ كليهما يتصوّر أنّ تصفية البنية الأساسية التسليحية لـ"حماس"، تعني نهاية ثقافة المقاومة في القطاع، أو قبول الأهالي بسلطة "أوسلو" القادمة للحكم على دبابات الاحتلال، وهو ما يتناقض مع الثقافة الغزّاوية الداعمة للمقاومة، ورفض السيناريو الخاص بتسليم القطاع للسلطة الفلسطينية في الضفة.
والأخطر أنّ التصوّرات الأمريكية والأوروبية لفرضية ما بعد "حماس" تغفل نسبيًا سيناريوهات نشوء جماعات إسلامية راديكالية تمارس عملياتها في مواجهة البلدان التي أيّدت ودعمت الحرب الإسرائيلية الغاشمة والدموية ضد المدنيين من الأطفال والنساء والمسنين، والمستشفيات.. إلخ، وغفلت أيضًا أنّ ذلك سيؤدي حتمًا إلى تمدّد إسلامي راديكالي جديد ويعمل وفق نظرية "العدو البعيد" كما حدث مع تنظيم "القاعدة" وأحداث ما قبل وبعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 الإرهابية.
وهنا يجب الإشارة إلى أنّ تنظيم "القاعدة" بدأ بدعم أمريكي سعودي لمواجهة الاتحاد السوفيتي السابق في أفغانستان، ولم تكن الولايات المتحدة تطلق عليه وصف إرهابي، وتم إلصاق هذه الصفة به بعد هجومه الإرهابي في 11/9/2001.
إنّ تصورات هؤلاء عما يمكن أن يحدث بعد فرضية تدمير وتصفية حركة "حماس" لا يدخل في سياقات احتمالات نشأة تنظيمات من بقايا الجيل الحمساوي الشاب يقوم بعمليات على نسق "القاعدة" مجددًا!، وخاصة على فرضية إذا استطاعت إسرائيل تحقيق أهدافها من عملية "السيوف الحديدية".
يبدو أن ثمّة احتمالات أن يشهد الشرق الأوسط تغيّرات جيو سياسية جديدة.
... وللحديث بقية.
(خاص "عروبة 22")