نعود بالذاكرة، في هذا التقرير، إلى زاوية مؤلمة من تاريخ المغرب الكبير، حيث كانت "العشرية السوداء" (1992-2002) في الجزائر بمثابة منعطف خطير في الخريطة الجيوسياسية لدول شمال أفريقيا. ومعلوم أنّ هذه الأخيرة ظلّت وإلى وقت قريب بمنأى عن دوّامة الحروب الأهلية، والاقتتال الديني أو الطائفي، إلا أنّ عشرية الدم تلك أحدثت شرخًا عميقًا في ضمير الأمّة الجزائرية المثقلة سلفًا بالإرث الكولونيالي (الاستعماري) وهاجس الهوية.
ولأنّ العشرية نفسها لا زالت ترخي بظلال الرعب على الذاكرة الجماعية للجزائريين، فقد كانت تلك الأحداث المفصلية والمأساوية، مادّة سينمائية خصبة، التقط إشاراتها العديد من صنّاع السينما في الجزائر.
"أبو ليلى".. قراءة سيكولوجية في جذور العنف الديني
حرص المخرج الجزائري أمين سيدي بومدين على تقديم المأساة الجزائرية من زاوية التحليل النفسي، الذي يُسلّط الضوء على صدمات الطفولة وندبات العنف الأسري، حيث تُجسّد شخصية "سمير" الصراع الداخلي المرير بين شبح الماضي وبين ضرورة الحفاظ على التوازن النفسي والاجتماعي. وسوف يُعاين المشاهد لاحقًا كيف فشل البطل في تحقيق هذه المعادلة المستحيلة.
لقد ركّز المخرج على ثنائية العنف والعنف المضاد كوسيلة لتحديد ماهية العنف وجذوره الإيديولوجية ودوافعه النفسية، في محاولة للابتعاد عن السردية الغربية التقليدية، التي اعتادت على وضع الدّين في قفص الاتهام، كلّما تعلّق الأمر بأعمال عنف تدور رحاها في منطقة "مينا".
غير أنّ الملاحظ هنا هو سقوط المخرج في فخ تبرير الفعل الديني العنيف، من خلال إيجاد مسوغات أخلاقية ودوافع نفسية لاستدرار التعاطف مع مرتكبي هذه الأفعال الشنيعة.
تجدر الاشارة أيضًا، إلى أنّ المخرج وفي سعيه الحثيث إلى نسج سردية موازية لسرديات المركزية الغربية، وقع في تناقض صارخ، حين قدّم طقوس الذبح الإبراهيمية كجذر رئيس لصدمات الطفولة، التي ستصبح لاحقًا محرّكًا حيويًا للعنف، والنموذج هنا مع مشهد تهديد والد سمير بذبحه يوم عيد الأضحى، كعقاب على فرار الكبش.
كان فيلم "أبو ليلى" محاولة ملتبسة لتسليط الضوء على أصول الصراع الديني وماهيته، من خلال حكايات شخوصه المضطربة نفسيًا.
"من أجل وطني".. سؤال الهوية وهاجس الانتماء
يقدّم المخرج الجزائري رشيد حامي سيرته الذاتية من خلال فيلم "من أجل وطني"، وهو إنتاج جزائري فرنسي، يلقي فيه الضوء على مأساة شخصية، قد عايشها رفقة عائلته خلال العشرية السوداء.
يطرح الفيلم العديد من المعضلات الأخلاقية المربكة، والأسئلة الفلسفية المُلحّة، لعلّ أبرزها سؤال الانتماء للأرض، حيث تسافر بنا مشاهد الفيلم عبر رحلة الفقد القاسية، إذ نرافق "إسماعيل" في سعيه الحثيث إلى نيل العدالة، وتقصّي الحقيقة في قضية الوفاة الغامضة لأخيه الأكبر "عيسى".
لقد فرّ هذا الأخير من جحيم الميليشيات المسلّحة والجيش غير النظامي في الجزائر، ليلقى حتفه لاحقًا وبطريقة مريبة بعد أن انضمّ إلى مدرسة "سان سير" العسكرية الفرنسية.
المفارقة التي يستعرضها الفيلم من خلال مقتل عيسى، تطرح أكثر من علامة استفهام حول الإنسان الجزائري الذي يطارد حلم الانتماء في أرض سبق لجيوشها أن نكّلت بأسلافه. لقد هرب عيسى من جحيم الحرب الأهلية، ليحمل سلاح بلاد ارتكبت في الماضي القريب فظائع شنيعة في حق الأمّة الجزائرية.
الملاحظ أيضًا أنّ المخرج لم يحاول توجيه اتهامات لشخوصه، أو تقديم إجابات عن تساؤلاتها الكبرى، بقدر ما اجتهد في تشكيل صورة ملتبسة إلى حد ما عن الشخصية الجزائرية ما بعد الكولونيالية وما بعد العشرية السوداء. فهل يحق لنا أن نطالب الجزائريين بالولاء التام لوطن يلفظ أبناءه؟.
سؤال حاول "اسماعيل" الإجابة عنه، حين اعتبر أنّ الولاء الحقيقي يكون دائمًا للأرض التي تحفظ الكرامة الانسانية.
"بابيشا".. نساء مضادات للرصاص
يحيلنا عنوان الفيلم على مصطلح جزائري دارج يُقصد به الفتاة المرحة الذكية والمفعمة بالحياة، وقد كان فيلم "بابيشا"، وهو من إنتاجات سنة 2019، تجربة ناجحة في تسليط الضوء على سؤال المرأة، خلال مرحلة كان شعارها الأبرز التشدّد الإيديولوجي والميزوجينية التامة.
نرافق "نجمة" وصديقاتها الجامعيات، أثناء ممارستهن لـ"خطيئة" الحرية في مجتمع أصبح يعتبر الوجود الأنثوي في الشارع العام، جريمة تستوجب العقاب، مع الإشارة هنا إلى أنّ اعتماد "نجمة" كاسم للبطلة كان دلالةً واضحةً تحيلنا على اختيار المرأة الجزائرية لسبيل النور في مواجهة الظلام. يُسلّط الفيلم الضوء على الحياة الجامعية للشباب الجزائري أثناء بداية تغوّل الجماعات الدينية المتطرّفة، وبسط سيطرتها على المدرجات، عبر ترهيب الطلبة والتضييق على الأساتذة وتهديدهم بالتصفية الجسدية في حال تدريس مواد مخالفة للشريعة، من منظورهم الإيديولوجي.
تلاحظ "نجمة" التحوّل الكبير الذي طرأ على الحياة الجامعية، التي كانت إلى عهد قريب بيئة آمنة ومتفتحة، فتُقرّر رفع سلاح الفن في وجه الترهيب والقبح، بحيث تصرّ رفقة زميلاتها على تنظيم عرض أزياء داخل الحيّ الجامعي، الأمر الذي سيفتح عليها أبواب الجحيم باسم الغلو الديني.
هي مجموعة خلاصات تجسّد قواسم مشتركة بين مجمل هذه الأفلام، أقلّها دور العمل السينمائي في التفاعل الكمّي والنوعي مع مراحل تاريخية حرجة تمرّ منها الشعوب، ودوره أيضًا في مقاربتها من عدة رؤى ذات صلة بالسيناريو والأرضية النظرية، ودوره كذلك في توثيق مثل هذه المآسي للجيل الحالي والأجيال المقبلة.
بعد مرور أكثر من عشرين عامًا على طيّ صفحة العشرية السوداء، هل لا زال شبح الموت والدمار يلوح في أفق المغرب الكبير، في ظلّ الأوضاع الإقليمية المتفجّرة؟ وهل نحن في مأمن من عودة الظلام حقًا؟