بصمات

السّياسات الرسميّة والتّوحيد الثّقافي

تضطلع النّـخبُ الثّـقافيّـة العربيّـة، المؤمنـةُ بحاجة الأمّـة إلى الوحدة، بمهمّـة إنتاج ثقافة الوحـدة؛ إذْ هـي الأقْـدرُ على ذلك من بين فئات المجتمعات العربيّـة كافّـة بالنّظر إلى موقعها في عمليّـة الإنتاج الاجتماعيّ، بوصفها فئـة منـتِجـة للقيم غير الماديّـة (المعرفة، الثّـقافة، الآداب والفنون...)، وبالنّظر إلى اتّصالها بمصادر المعرفة بما فيها تلك المصادر التي انـتهلت منها أمـمٌ دروسَ وحدتها الكيانـيّـة، أو تلك (المصادر) التي عـرضَتْ خبرةَ التّجارب التّاريخيّـة في عمليّـة التّوحيد؛ وهـو اتّصـالٌ يوفّـر لها إمكانيّـاتٍ عـدّة لتحصيل الموارد التي من شأن تجنيدها في التّـفكير تيسيرُ إنتاجِ رؤًى إلى عمليّة الوحـدة، بل ربّما بناءُ نظريّـتها.

السّياسات الرسميّة والتّوحيد الثّقافي

لكـنّ هذه الفـئة إذْ تضطلع بأداء هذا الدّور التّأسيسيّ الحيويّ - في نطاقٍ فرديّ أو مؤسّسيّ - لا تحتكرهُ لنفسها أو تملك أن تـدّعي ملكـيّـته الحصريّـة (حتّى وإن كان الفكريُّ والثّـقافـيُّ شأنَـها الخاصّ الذي لا يزاحمها أحـدٌ عليه)؛ وذلك لسببٍ في غاية البساطة هـو أنّ أداءَها دورَها ذاك وقْـفٌ - هـو نفسُه - على ما تـقـدِّمه لها قـوًى أخرى من المجتمع من وجوه التّـمهيد والمساعـدة والإسناد التي لا غُـنْـيَـةَ لها عنها كي تنهض بعملها على النّحو الأَصْـوب، وكي ترفع عن ذلك العمل بعضَ العوائق..

أي برنامجٍ عربي رسمي للتّوحيد الثقافي الأفقي لن ينال من سيادات الدّول أو يهدّد استقلالها

لسنا نقصد بالقوى الأخرى تلك القوى التي يُـفْـتَـرَض أن تكون حاضنـةً اجتماعيّـةً - سياسيّـة لفكرة الوحدة ولِـقُواها؛ فهذه الحاضنة قد توجد في مستـقبلٍ قريب، مثـلما وُجدت في الماضي، وقـد لا توجد... إنّما نعني بها - على وجه التّحديـد - الحكومات العربيّـةَ القائمة وأجهزتَـها الثّـقافيّـة والتّربويّـة التّعليميّـة والإعلاميّـة، وجامعتَـها الإقـليميّـة (جامعة الدّول العربيّـة)، أي مجموعَ الأجهزة التي لها يـدٌ في ميدان صناعة الثّـقافـة والرّأي والقيم.

لن نـدّعي أنّ لهذه الحكومات - كلاًّ أو بعضًا - مصلحةً في وحدةٍ عربـيّة من النّوع الذي يبغيه المثـقّـفون والوحدويّـون العرب، ولكنّنا نسلِّـم بوجود عروبـةٍ جامعةٍ بينها تُـشْعِرُها جميعُها بالانتماء المشتَـرك؛ مثلما نسلِّـم بوجود خبرةٍ تاريخيّـةٍ من التّعاون والتّفاعل بينها - في مجالاتٍ مختـلفة - داخل إطار جامعة الدّول العربيّـة، وعلى ذلك كلِّـه نبني الافتراض بأنّ مصلحتَـها قد تقـتضيها بعضًا - حتّى لو كان قـليلًا - من توحيد برامجها الثّـقافيّـة والتّربويّـة (المدرسيّة) بما يوفِّـر قاعـدةً متينة لتعزيز الرّوابـط بين شعوب الأمّـة ويـزيد من فرص تعظيم التّعاون والشّراكـة بين البلدان العربيّـة. ومن النّافـل القـول إنّ أيّ برنامجٍ عربيّ رسميّ للتّـوحيد الثّـقافيّ الأفـقيّ - ولو في حدوده الدّنيا - لن ينال من سيادات الدّول أو يهـدّد استقلالها بمقدار ما سيَـرْتُـق الفُـتوق الثّـقافـيّة بين شعوبها.

مهمّة تحتاج إلى الإرادة وإدراك العائدات الجزيلة منها على عمليّة التّنمية والتّعاون الاقتصاديّ العربيّ

ما من جهـةٍ تملك أن تنجز هـذه المهمّـة الكبيرة (التّوحيد الثّـقافـيّ) سوى الدّول، لأنّـها التي تقوم على مؤسّسات التّكوين وبرامجه. وهي، في الواقع، مهمّـة لا تحتاج إلى أكثر من بعض الإرادة من قِـبل النّخـب العربيّة الحاكمة، وإلى قليلٍ من إدراكها العائـدات الجزيلةَ التي تعود منها على عمليّة التّـنميـة نفسها والتّعاون الاقتصاديّ العربـيّ - العربيّ. أمّـا إنجازها المهمّـة هذه فقـد تكـون الأيْسَـرَ على الحكومات العربيّـة من أيّ مهمّـة أخرى؛ إذِ المجال الثّـقافـيُّ، بالذّات، مهـيّـأٌ أكثر من غيره من مجالات الحياة العربيّـة الأخرى لأن يَـشْهـد على وحدةٍ فيه، حيث عوامـل الثّـقافة واللّغـة أكثر عوامل الاشتراك والوحدة بين العرب جميعًا.

بيِّـنٌ، إذن، أنّ عملَ النّـخبة العربيّـة المثـقّـفة على مشروع إنتاج ثقافـة الوحـدة يفترض أن يؤسِّـس له عَـمَلُ الدّول على تحقيق الحـدّ الأدنى من التّوحيـد الثّـقافيّ؛ فالتّوحيد هـذا هـو البيئة الوحيدة المناسبة لإنتاج تلك الثّـقافـة، ولتمكين فكرة الوحدة من بناها الفكريّـة والرّؤيـويّـة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن