وجهات نظر

"البُعد الثقافي" في التأييد الغربي لإسرائيل: التمييز بين الشعوب!

التأييد الغربي لإسرائيل له دوافع سياسية واستراتيجية عديدة، بعضها واضح مثل التحالف "المقدّس" بين أمريكا والدولة العبرية ودعمها المطلق بالسلاح والعتاد والمال، كما أنّ هناك من اعتبر أنّ هذا الدعم يرجع لكون إسرائيل مخلب القوى الاستعمارية الكبرى أو صنيعتها، وهناك من قال إنها كلب الحراسة الأمين للمصالح الغربية والاستعمارية في الشرق الأوسط، والقادرة على إيذاء كل من يخرج من دول المنطقة عن الخط الذي رسمته القوى الكبرى.

وبصرف النظر عن الاتفاق مع كل أو بعض هذا الكلام، إلا أنّ من المؤكد أنّ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة فتح الباب أمام قراءة أنماط أخرى من الدعم لا ترجع فقط لوجود مصالح مشتركة أو تحالفات "مقدّسة" بين الدول الغربية الكبرى وإسرائيل، إنما أيضًا لوجود موقف حضاري وإطار معرفي ميّز فيه الغرب بين إسرائيل والعرب، وبين مدني فلسطيني وآخر إسرائيلي وبين طفل يسقط قتيلًا يتكلّم العبرية وآخر يتكلّم العربية، ومسن أشقر وآخر خمري اللون، وهو ما لم يحدث في حرب روسيا مع أوكرانيا التي دعم فيها الغرب دولة حليفة في مواجهة أخرى معادية، ولكنها لم تعكس الروح التمييزية بين البشر كما جرى في حرب غزّة.

الحقيقة أن فجاجة الموقف التمييزي الغربي تجاه ما يجري في قطاع غزّة فتح الباب لمناقشة الأبعاد المعرفية التي جعلت هذه النظرة التمييزية حاضرة بهذه الطريقة في وسائل الإعلام وفي الخطاب الرسمي، بحيث تجاوز الأمر تحالفًا بين غرب صاحب تاريخ استعماري مع دولة استعمارية جديدة ليصل إلى أبعاد حضارية وثقافية واضحة أخرجها الفارق الهائل في التعامل مع المدنيين الإسرائيليين الذين سقطوا في عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول وبين التعامل مع المدنيين الفلسطينيين والذين بلغوا حتى الآن حوالى 15 ضعف ضحايا الطرف الأول.

مخزون كامن في السلم يخرج في الحرب ويحمل فيه كثير من الغربيين نظرة دونية تجاه من هم خارج الحضارة الغربية

صحيح أنّ الصراع الحضاري بين الدول تراجع أمام التقدّم العلمي والاقتصادي وسعي كثير من الدول مشاركة الغرب مبادئ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، إلا أنّ حرب غزّة استدعت البُعد الثقافي في التمييز بين الشعوب حين اتضح أمام العالم العربي بالصوت والصورة كيف أنّ قادة الدول الديمقراطية الكبرى يميّزون بين المدنيين الفلسطينيين والإسرائيليين على أُسُس قومية ودينية وثقافية، وأنّ هناك ضحايا يبكى عليهم وآخرين لا قيمة لهم.

تصريحات قادة إسرائيل عن إبادة سكان غزّة أو إلقاء القنبلة النووية عليهم لم يعلّق عليها مسؤول غربي إلا بصورة خجولة، في حين إنّ مقولات "حماس" التي تستهدف دولة الاحتلال ومؤسساتها صُنّفت على أنها إرهاب وعداء للسامية، كما أنّ كلّ عمليات المقاومة المسلّحة التي استهدفت مدنيين في إسرائيل أدانها الجميع في الغرب وكثيرون في الشرق، أما قتل المدنيين في غزّة مع سبق الإصرار والترصد اعتُبر في الغرب ضمن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، بينما الصور التي وثّقتها كاميرات المراقبة ونقلتها تقريبًا كل الفضائيات العربية عند قيام جنود إسرائيليين بقتل طفلين فلسطينيين في الضفة الغربية لم يحملا سلاحًا ولا حجرًا لم يعلّق عليها مسؤول غربي واحد ولم يطالب أحد بمحاسبة القتلة.

إنّ النظرة التمييزية تجاه أرواح البشر وصور الضحايا والانحياز بالقلب والعقل والكلمة للضحايا الإسرائيليين، وحين اضطرّ القادة الغربيون أن يتكلموا عن الضحايا الفلسطينيين لم يبذلوا أي جهد لوقف عمليات القتل والتهجير بحقهم، كل ذلك فتح الباب أمام عودة التفسير الثقافي لأسباب هذا الانحياز، واعتُبر البُعد الثقافي أقرب لمخزون كامن في أوقات السلم لكنه يخرج في أوقات الحرب ويحمل فيه كثير (وليس الكل) من الغربيين نظرة دونية تجاه من هم خارج الحضارة الغربية ويعتبرون دماء الرجل الأبيض، سواء كان في إسرائيل أو أوروبا أو الولايات المتحدة، أكثر أهمية وأكثر قيمة من دماء أصحاب البشرة الملونة، وهو أمر يتجاوز مسألة الدعم العسكري أو التحالف السياسي والاستراتيجي بين الدول ليصل إلى نظرة تمييزية عميقة تجاه الشعوب الأخرى.

صحيح أنّ هناك من داخل الغرب من ينتقد هذه العقلية ويسعى لتغييرها أو التخفيف من وقعها، وشاهدنا مظاهرات الرفض للجرائم الإسرائيلية وأصوات الضمير التي يطلقها كتّاب وفنانون وأدباء وسياسيون في وجه هذه المنظومة المعرفية التي أنتجت هذا التمييز بين الشعوب، إلا أنها لم تنجح حتى اللحظة في تغييرها.

إذا حلّلنا الخطاب الرسمي لمعظم السياسيين في الغرب وحلّلنا رسائل المؤسسات الإعلامية الكبرى، سنجد هناك فارق هائل وصادم في عدد المرات التي تحدث فيها زعماء العالم وإعلامهم عن المدنيين الإسرائيليين مقارنةً بنظرائهم الفلسطينيين، وحين اضطروا في الفترة الأخيرة أن يتحدثوا عن المدنيين الفلسطينيين بعد المجازر التي استهدفتهم لم يقوموا بأي جهد لحمايتهم أو إجبار إسرائيل على وقف القتال.

وقد أعطى زعماء العالم رخصة قتل جماعي لإسرائيل عقب عملية 7 أكتوبر برفع شعار "من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها" وظلّ هذا الشعار مرفوعًا حتى الآن كغطاء لاستمرار قتل النساء والأطفال حتى وصلوا إلى 16 ألفًا، في حين أنّ الحرب الروسية الأوكرانية المستمرة منذ حوالى عامين سقط فيها فقط 10 آلاف مدني وإذا أخذنا بعين الاعتبار الفارق بين عدد سكان روسيا وأوكرانيا من جهة، وغزّة من جهة أخرى لاكتشفنا حجم الكارثة الإنسانية التي دفعها الفلسطينيون.

أغلب المواطنين الغربيين يشعرون بأنّ الإسرائيليين امتداد ثقافي لهم قبل أي حسابات سياسية واستراتيجية أخرى

التعاطف الثقافي الغربي مع وجوه وشوارع وأسواق ونمط حياة الإسرائيليين في مدنهم ومستوطناتهم مؤكد، بل وأصبح معلنًا، وجمل من نوع "هم متحضّرون مثلنا" و"لديهم ديمقراطية مثلنا" "أنظروا لأزياء نسائهم" باتت رائجة في أوساط غربية كثيرة، في حين أنّ أيّ صورة تنقل واقع الحياة الثقافية والاجتماعية في أحياء غزّة المكدّسة ووجوه سكانها وثقافتهم العربية الإسلامية يجعل أغلب المواطنين الغربيين يشعرون بأنّ الإسرائيليين امتداد ثقافي لهم قبل أي حسابات سياسية واستراتيجية أخرى.

لقد استدعى الموقف التمييزي الفج لكثير من القادة الغربيين تجاه ما يجرى في غزّة مخزونًا كامنًا من الصراع الثقافي بين الغرب والعالمين العربي والإسلامي وأضعف من جهود كثيرة ومن مواقف أجيال جديدة آمنت بالحوار الحضاري ودافعت عن التنوّع الثقافي بالعالم في إطار احترام كل ثقافة لخصوصية الأخرى والتمسّك بمبادئ المساواة والعدالة بين الشعوب، وهي التي غابت أمام بحور الدماء التي تسيل في غزّة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن