وجهات نظر

المهاجرون العرب.. والمساهمة في فضح السرديّة الصهيونية

معلوم أنّ الهجرة ظاهرة تاريخية وإنسانية بأبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تتضمّن سلبيات وإيجابيات، سواء على الصعيد الشخصي أو العام، وقد تنسحب نظرية أو مقولة الفيلسوف الألماني هيجل "مكر التاريخ" على هذه الظاهرة من جوانب عديدة، حيث عرف العالم العربي كغيره من المجتمعات هذه الظاهرة عبر التاريخ، إلّا أنّ الظاهرة توسّعت وتمدّدت بعد حصول الأقطار العربية على الاستقلال السياسي وفشل اختياراتها الاقتصادية والاجتماعية، ما أدّى إلى هجرة الملايين من الشباب العربي إلى أوروبا وشمال القارة الأمريكية وأستراليا، فاندمج البعض منهم في المؤسّسات الأكاديمية والثقافية والاجتماعية والسياسية الغربية، في حين ساهم البعض الآخر في تأسيس جمعيات ذات طابع اجتماعي أو ثقافي أو الاثنين معًا.

المهاجرون العرب.. والمساهمة في فضح السرديّة الصهيونية

رغم "الإغراءات" المتنّوعة والمختلفة، ظلّ المهاجرون محافظون على هويتهم الوطنية والحضارية، مرتبطون بأوطانهم وقضايا أمّتهم وقيمها يستنفرون ويتجنّدون لنجدتها والدفاع عنها عند الأزمات، وهذا معطى تجسّد مؤخرًا بعد "طوفان الأقصى" والعدوان الإسرائيلي الإرهابي المتجدّد على غزّة والضفة، وما خلّف من تدمير واسع للأبراج السكنية والبيوت والمدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس والمؤسسات الثقافية والأثرية، ناهيك عمّا خلّف من عشرات آلاف القتلى والجرحى من أطفال ونساء وشيوخ.

ومنذ اللحظات الأولى لانطلاقة عملية طوفان الأقصى "فزعت" دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، حيث زار كل من أميركا وفرنسا تلّ أبيب، بالإضافة إلى رؤساء الحكومات والخارجية للعديد من تلك الدول للتعبير عن تضامنهم وإدانة المقاومة الفلسطينية، مؤيّدين في الوقت نفسه عمليات الإبادة التي تنفّذها دولة الاحتلال باعتبارها "حقًا شرعيًا لإسرائيل في الدفاع عن نفسها".

فضح الإرهاب الصهيوني الممنهج ساعد قطاعات واسعة من المجتمعات وبعض الأحزاب الغربية لفهم طبيعة الصراع

لم يتوقّف الأمر على ذلك، بل تواترت الاقتراحات والمواقف المساندة للعدوان، ومن ذلك مطالبة مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون المفاوضات المجري أوليفر فارهيلي، وقف المساعدات المالية التي يقدّمها الاتحاد للفلسطينيين، في حين طالب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتوسيع نطاق التحالف ضد تنظيم "داعش" الإرهابي ليشمل حركة "حماس".

وفي مواجهة ذلك، تجنّد طلبة وشباب الجاليات العربية والإسلامية، أفرادًا ومجموعات ومنظّمات، لفضح الإرهاب الصهيوني المُمنهج ولعبوا دورًا محوريًا في دعوة الجمهور للخروج إلى الشارع، وذلك باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة وبالاستناد لوسائل الإعلام المرئية العربية المنحازة للقضية، كما تمّ كشف ونقل صورة ما يحصل من قتل وتنكيل بسكان غزّة، وفضح زيف ادعاءات الصهيونية، الأمر الذي ساعد على تنظيم تظاهرات مليونية وبمئات الآلاف في الساحات والملاعب الرياضية الذين رفعوا الأعلام وارتداء الكوفية الفلسطينية على أنغام أغاني فلسطينية وغيرها ذات المضامين الإنسانية والنضالية، الأمر الذي ساعد قطاعات واسعة من المجتمعات وبعض الأحزاب الغربية لفهم طبيعة الصراع، وهذا تحوُّل شكّل ضغطًا متواصلًا على أصحاب القرار في أغلب الدول الأوروبية التي راجعت بعضًا من مواقفها تجاه الحرب.

ورغم استمرار وصف نضال حركة المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، طالب الرئيس الفرنسي بوضع حدّ للقصف الذي يقتل المدنيين وتحديدًا الأطفال والنساء والمسنّين، مؤكدًا أنّ "مكافحة الإرهاب يجب أن تكون وفقًا للقواعد الدولية للحرب والقانون الإنساني الدولي"، وداعيًا إلى وقف إطلاق النار واستئناف إطلاق عملية السلام في الشرق الأوسط. الواقع ذاته أجبر الدبلوماسية الأمريكية، على تغيير خطابها نسبيًا، إذ طالبت بتجنيب المدنيين القصف والقتل، وبإدخال المساعدات، وهو عكْس خطابها الذي استخدمته في بداية الحرب، كما برزت احتجاجات جزء هام من الديمقراطيين في الكونغرس، ممن طالبوا بمراجعة الدعم العسكري الممنوح لإسرائيل، كما طالب نواب حزب العمّال في البرلمان البريطاني بوقف إطلاق النار في غزّة.

وتفاعلًا مع الضغط الشعبي الذي عرفته لندن وبقية المدن البريطانية، أقال رئيس الوزراء البريطاني وزيرة الداخلية على خلفية اتهامها الشرطة بالتحيّز للفلسطينيين في التظاهرات التي عمّت شوارع لندن. كما شهد موقف كل من الحكومة الإيطالية والإسبانية، تغيّرًا واضحًا إزاء العدوان على السكان المدنيين في غزّة.

دور المهاجرين العرب كان واسعًا وأساسيًا بفرض تحوّل نوعي في موقف الرأي العام

لقد ساهم نشاط المهاجرين العرب على خلفية تضامنهم الواسع والمتنوّع مع الشعب الفلسطيني بفرض تحوّل جزئي في مناطق اغترابهم، وهذا تحوّل نوعي في موقف الرأي العام الأوروبي تجاه طبيعة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتراجع التعاطف التقليدي والمساندة المطلقة للدولة الصهيونية.

لا شكّ أنّه ثمّة عوامل عديدة ساهمت في عودة وعي قطاعات واسعة من المجتمعات الغربية تجاه طبيعة الصراع وطبيعة الحركة الصهيونية الاستعمارية الاستيطانية، إلّا أنّ دور المهاجرين العرب كان واسعًا وأساسيًا، وواضح أنّنا إزاء أمر يستدعي إعادة النظر في الفكرة السائدة التي تركّز على السلبية المطلقة لهجرة الشباب العربي دون اعتبار لإيجابياتها المؤكدة على مستويات عدة في مناطق الاغتراب خدمةً لقضايا وطنهم وأمّتهم.

وممّا يؤكّد ذلك، ما يقوم به اليهود من المنتشرين في أنحاء العالم من دعم ومساندة للدولة الصهيونية التي استثمرت هذا الوجود الذي يتناقض في العمق مع أفكارها المركزيّة، ومنها دعوة اليهود للهجرة إلى "أرض الميعاد" وصدّ اندماجهم في مجتمعاتهم الأصلية، وتمكّن أفراد تلك الأقلية من "اختراق" المؤسّسات العلميّة والثقافية والإعلامية والاقتصادية وشكّلوا "لوبيات" أثّرت ولا زالت تؤثّر على جزء هام من الرأي العام وخاصة النخب السياسية والإعلامية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن