وجهات نظر

تحوّل إستراتيجي غربي جديد: مؤشّرات جيوسياسية وديمغرافية

يتحدّث الأميركيون عن تسوية كبيرة يكون فيها العالم الغربي محكومًا بإجراء تسوية للخلافات مع روسيا والصين، وأنّ الشرق الأوسط في طريق هذه التسوية الكبيرة. لا تأكيدات على حدوث ذلك قبل رؤية ما ستنتهي إليه الحرب الإسرائيلية على غزّة ومآسيها في ظلّ أصوات كثيرة تعمل لتأخير التسوية، أو إلغائها، أو التشكيك في نتائجها.

تحوّل إستراتيجي غربي جديد: مؤشّرات جيوسياسية وديمغرافية

استطاع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات أن يصل في اتفاقية أوسلو 1994 إلى حل، أن بنى شكلًا من أشكال السلطة الفلسطينية على أرض فلسطين. وكانت مصر بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 قد تمكّنت من إسترجاع الأرض في سيناء مقابل توقيعها على اتفاقية سلام مع إسرائيل، أخرجتها من الصراع العربي – الإسرائيلي، وبقيت الأمور عالقة في الجانب السياسي.

حديثًا، أنجز ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تسوية سياسية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأدخل سوريا مجددًا الى الجامعة العربية، وكانت المملكة بصدد التطبيع المشروط مع إسرائيل في مسار شامل للداعمين للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط.

تغيير اتجاهات الرأي العام داخل الجالية اليهودية الأميركية رفضًا للحرب التي تشنّها إسرائيل 

قرار حركة "حماس" الجهادية وحلفائها، يمشي واقعيًا في الاتجاه المعاكس. لكن وراء هذا الاصرار البطولي الكبير في "طوفان الأقصى"، وتجذير القضية الفلسطينية التي يحملها الكفاح المسلّح، لا بدّ من أن تصل الأمور إلى هدف ما، على عنف الحرب التي نراها، ومع دخول أطراف يمكن لها أن تدمّر التسوية مع الفلسطينيين، ومنها ضمان عودة الرئيس بايدن في الانتخابات الرئاسية المقبلة. أظهرت محطات في القمة التي عقدها مع نظيره الصيني شي جين بينغ أخيرًا قلقًا لدى فريقه، لجهة قدرته على القيام بمثل هذا النوع من المهام التي تحتاج إلى طاقة ذهنيّة متّقدة، وهناك الكثير من الشكوك حولها.

الإشارات التي تدعو إلى التفاؤل، هي في تغيير إتجاهات الرأي العام داخل الجالية اليهودية الأميركية نفسها في ردود الفعل، ورفض الحرب التي تشنّها إسرائيل على الاجتماع الفلسطيني المديني في غزّة والضفة الغربية، ورفض إنتهاكات الحقوق المدنية والسياسية في القصف وقتل الأطفال والنساء والمسنّين.

أصوات جديدة في أميركا تريد السلام مع الفلسطينيين "من أجل إسرائيل"، على الرغم من الشكوك الكبيرة حول هذا السلام. النخبة العسكريتارية لا تستسيغ نتنياهو، وتذّكر بحقبة ممتدّة على مدى خمسين عامًا مع مصر وسوريا. الرأي العام في أوروبا، الذي هاجم "حماس" في الأيام الأولى من بداية العمليّة، عاد وتغيّر جذريًا في حركة التظاهرات في المدن والمواقف الرسميّة. الجديد حملات مناهضة للعنف الإسرائيلي في كبرى الجامعات الأميركية مثل "هارفرد" و"براينت" و"يراون". ثمّ في عودة لتيار يساري شيوعي/تحديثي لدى جيل الشباب الغربي. عودة إلى الشيوعية الماركسية الحقيقية مع تيار يقول إنّ لينين "لم يطبق نظريات ماركس"، في نقد أساسي لرؤية لينيين "لا دولة ولا تطبيق للشيوعية مع الحرية". يبقى تصرّف الأحزاب الإسرائيلية المتطرّفة، التي لا تريد فقط القضاء على "حماس" في غزّة، بل تريد ضمّ الضفة الغربية والتحكّم بكل المحيط الإقليمي.

مؤشّرات الحرب الديمغرافية في العنصرية والإبادة والتهجير، تستدعي إعادة هندسة البيئة الدولية

المؤشّرات الجيوسياسية تعطي أهمية خاصة لتأثير الديمغرافيا على التاريخ والجغرافيا، المعادلة التي يتردّد صداها في الغرب واختصرها الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي بـ"الديموغرافيا التي تصنع التاريخ". هذه المعطيات تعيد إلى الذاكرة كلامًا للمفكّر الفرنسي أندريه مالورمن "القرن الحادي والعشرين سيكون دينيًا أو لا يكون"، وفي نبوءة أرنولد توينبي "الاسلام سيعود يومًا ليفرض وجوده في التاريخ"، وموجات فرنسيس فوكوياما المضلّلة "نهاية التاريخ"، وصموئيل هانتغتون في "صدام الحضارات".

إنّ المؤشّرات الديمغرافية التي تقوم عليها حرب إسرائيل في التفرقة والعنصرية والإبادة الجماعية والتهجير القسري، تستدعي دعوات للولايات المتحدة الأميركية باستئناف الدور الرسالي الذي بدأته العام 1945 بصفتها القوة الكبرى عالميًا، أي إعادة هندسة البيئة الدولية، بخلاف ما أوصى به الغائب/الحاضر هنري كيسنجر، باعتماد الدبلوماسية المكثّفة في أداء المهام الأميركية الوازنة، واستبعاد أي تورّط مربك. ولعل الكتاب الذي أصدره بنيامبن نتنياهو تحت عنوان "الخطر الأخضر" - 1995، أي الخطر الإسلامي الصاعد، قد يفسّر التحديات المقبلة على أمن المنطقة وسلامها واستقرارها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن